فصل: بَابُ الْفَوَاتِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.بَابُ الْفَوَاتِ:

(وَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَفَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ)؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ يَمْتَدُّ إلَيْهِ (وَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ وَيَسْعَى وَيَتَحَلَّلَ وَيَقْضِيَ الْحَجَّ مِنْ قَابِلٍ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ)؛ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «مَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَلْيَحِلَّ بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ» وَالْعُمْرَةُ لَيْسَتْ إلَّا الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ بَعْدَمَا انْعَقَدَ صَحِيحًا لَا طَرِيقَ لِلْخُرُوجِ عَنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ كَمَا فِي الْإِحْرَامِ الْمُبْهَمِ، وَهَاهُنَا عَجَزَ عَنْ الْحَجِّ فَتَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْعُمْرَةُ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ وَقَعَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَكَانَتْ فِي حَقِّ فَائِتِ الْحَجِّ بِمَنْزِلَةِ الدَّمِ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا.
الشَّرْحُ:
(بَابُ الْفَوَاتِ).
قولهُ: (لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَلِيَحِلَّ بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ») رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي سَنَدِهِ رَحْمَةُ بْنُ مُصْعَبٍ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: ضَعِيفٌ وَقَدْ تَفَرَّدَ بِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ وَضَعَّفَهُ بِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، وَضَعَّفَهُ عَنْ جَمَاعَةٍ. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ يَحْيَى بْنُ عِيسَى النَّهْشَلِيُّ ضَعَّفَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَأَسْنَدَ تَضْعِيفَهُ عَنْ ابْنِ مَعِينٍ.
وَقَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ خُصُوصِ هَذَا الْمَتْنِ الِاسْتِدْلَال عَلَى نَفْيِ لُزُومِ الدَّمِ، فَإِنَّ مَا سِوَاهُ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ لَا يُعْلَمُ فِيهَا خِلَافٌ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْفَوَاتِ، وَكَانَ الْمَذْكُورُ جَمِيعَ مَا لَهُ مِنْ الْحُكْمِ، وَإِلَّا نَافَى الْحِكْمَةَ، وَلَيْسَ مِنْ الْمَذْكُورِ لُزُومُ الدَّمِ، فَلَوْ كَانَ مِنْ حُكْمِهِ لَذَكَرَهُ.
قولهُ: (كَمَا فِي الْإِحْرَامِ الْمُبْهَمِ) وَهُوَ أَنْ لَا يَزِيدَ فِي النِّيَّةِ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِحْرَامِ ثُمَّ يُلَبِّي فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ، وَلَهُ أَنْ يُعَيِّنَ مَا شَاءَ مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي الطَّوَافِ، فَإِذَا شَرَعَ قَبْلَ التَّعْيِينِ تَعَيَّنَتْ الْعُمْرَةُ وَلِذَا قُلْنَا: لَوْ لَمْ يُعَيِّنْ حَتَّى طَافَ أَقَلَّ الْأَشْوَاطِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ رَفَضَهَا وَلَزِمَهُ حُكْمُ الرَّفْضِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي إضَافَةِ الْإِحْرَامِ إلَى الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ صَارَ جَامِعًا بَيْنَ عُمْرَتَيْنِ، وَقَدْ أَسْلَفْنَا فِي الْإِحْرَامِ الْمُبْهَمِ شَيْئًا فِي بَابِ الْإِحْرَامِ، وَالْمُرَادُ بِالصَّحِيحِ فِي قولهِ: لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بَعْدَ مَا انْعَقَدَ صَحِيحًا اللَّازِمُ لِيَخْرُجَ بِهِ الْعَبْدُ وَالزَّوْجَةُ بِغَيْرِ إذْنٍ لَا مُقَابِلَ مَا فَسَدَ. (قولهُ: وَلَا دَمَ عَلَيْهِ) وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: عَلَيْهِ الدَّمُ كَقول الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَلَنَا فِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدِيثِ آنِفًا، وَهُوَ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّ مُسْلِمًا رَوَى؛ لِلنَّهْشَلِيِّ، وَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ؛ لِأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ حِينَ فَاتَهُ الْحَجُّ: اصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الْمُعْتَمِرُ ثُمَّ قَدْ حَلَلْت، فَإِذَا أَدْرَكَك الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ فَاحْجُجْ وَأَهْدِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ؛ لِهَبَّارِ بْنِ الْأَسْوَدِ وَمَنْ مَعَهُ حِينَ فَاتَهُمْ الْحَجُّ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُ مَا عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ فَمَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ؛ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ حِينَ بَيَانِهِ لِحُكْمِ الْفَوَاتِ، أَوْ لَمْ يَعْلَمَا فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، وَتَأَيَّدَ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَعْنَى فِي الْكِتَابِ وَهُوَ أَنَّ الْعُمْرَةَ لِفَائِتِ الْحَجِّ جُعِلَتْ شَرْعًا شَرْطًا لِلتَّحَلُّلِ، وَكَانَتْ كَالدَّمِ فِي الْمُحْصَرِ فَلَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا. وَقولهُ: لِأَنَّ التَّحَلُّلَ إلَخْ الْمُرَادُ أَنَّ لُزُومَ الدَّمِ عَلَى الْمُحْصَرِ؛ لِكَوْنِهِ تَعَجَّلَ الْإِحْلَالَ قَبْلَ الْأَعْمَالِ، وَهَذَا قَدْ حَلَّ بِالْأَعْمَالِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ لَا مَا يَتَخَايَلُ مِنْ ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ؛ لِيُقَالَ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الْمُحْصَرِ عُمْرَةٌ فِي قَضَاءِ الْحَجَّةِ حِينَئِذٍ.

متن الهداية:
(وَالْعُمْرَةُ لَا تَفُوتُ وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ إلَّا خَمْسَةَ أَيَّامٍ يُكْرَهُ فِيهَا فِعْلُهَا، وَهِيَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ) لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَكْرَهُ الْعُمْرَةَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْخَمْسَةِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامُ الْحَجِّ فَكَانَتْ مُتَعَيِّنَةً لَهُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهَا لَا تُكْرَهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ؛ لِأَنَّ دُخُولَ وَقْتِ رُكْنِ الْحَجِّ بَعْدَ الزَّوَالِ لَا قَبْلَهُ، وَالْأَظْهَرُ مِنْ الْمَذْهَبِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَوْ أَدَّاهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ صَحَّ وَيَبْقَى مُحْرِمًا بِهَا فِيهَا؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لِغَيْرِهَا وَهُوَ تَعْظِيمُ أَمْرِ الْحَجِّ وَتَخْلِيصُ وَقْتِهِ لَهُ فَيَصِحُّ الشُّرُوعُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ) أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ يَزِيدَ الرِّشْكِ عَنْ مُعَاذَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ. حَلَّتْ الْعُمْرَةُ فِي السَّنَةِ كُلِّهَا إلَّا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ: يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَيَوْمَانِ بَعْدَ ذَلِكَ.اهـ. وَهُوَ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْكَرَاهَةَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ وَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَا يُفِيدُهُ.
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْإِمَامِ: رَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَنَافِعٌ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: قَالَ الْبَحْرُ يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ: خَمْسَةُ أَيَّامٍ: يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَالثَّلَاثَةُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ اعْتَمِرْ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا مَا شِئْت. اهـ. هَذَا وَأَمَّا أَفْضَلُ أَوْقَاتِهَا فَرَمَضَانُ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال: «عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً» وَفِي طَرِيقٍ؛ لِمُسلم: «تُقْضَى حَجَّةً أَوْ حَجَّةٌ مَعِي» وَفِي رِوَايَةٍ؛ لِأَبِي دَاوُد «تَعْدِلُ حَجَّةً مَعِي» مِنْ غَيْرِ شَكٍّ. وَكَانَ السَّلَفُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يُسَمُّونَهَا الْحَجَّ الْأَصْغَرَ. هَذَا وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْحَجِّ الْوَعْدَ بِعَدَدِ عُمُرَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَنَقول: قَدْ «اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ عُمُرَاتٍ كُلُّهُنَّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ»، وَلَمْ يَعْتَمِرْ مُدَّةَ مُقَامَهُ بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ شَيْئًا، وَذَلِكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَعَنْ هَذَا ادَّعَى مَنْ ادَّعَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْعُمْرَةِ أَنْ تُفْعَلَ دَاخِلًا إلَى مَكَّةَ لَا خَارِجًا، بِأَنْ يَخْرُجَ الْمُقِيمُ بِمَكَّةَ إلَى الْحِلِّ فَيَعْتَمِرَ كَمَا يُفْعَلُ الْيَوْمُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَمْنُوعًا؛ ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْأَرْبَعَةِ، إحْرَامَهُ بِهِنَّ، فَأَمَّا مَا تَمَّ لَهُ مِنْهَا فَثَلَاثٌ، وَلِهَذَا قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: «اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمْرَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ فَلَمْ يَحْتَسِبْ بِعُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ»، كَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَكُلُّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ عَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ.
الْأُولَى: عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ فَصُدَّ بِهَا فَنَحَرَ الْهَدْيَ بِهَا وَحَلَقَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَرَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ.
الثَّانِيَةُ: عُمْرَةُ الْقَضَاءِ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ، وَهِيَ قَضَاءٌ عَنْ الْحُدَيْبِيَةِ، هَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَذَهَبَ مَالِكٌ إلَى أَنَّهَا مُسْتَأْنَفَةٌ لَا قَضَاءٌ عَنْهَا، وَتَسْمِيَةُ الصَّحَابَةِ وَجَمِيعِ السَّلَفِ إيَّاهَا بِعُمْرَةِ الْقَضَاءِ ظَاهِرٌ فِي خِلَافِهِ، وَتَسْمِيَةُ بَعْضِهِمْ إيَّاهَا عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ لَا يَنْفِيهِ، فَإِنَّهُ اتَّفَقَ فِي الْأُولَى مُقَاضَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَيَدْخُلَ مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ وَيُقِيمَ بِهَا ثَلَاثًا، وَهَذَا الْأَمْرُ قَضِيَّةٌ تَصِحُّ إضَافَةُ هَذِهِ الْعُمْرَةِ إلَيْهَا، فَإِنَّهَا عُمْرَةٌ كَانَتْ عَنْ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ فَهِيَ قَضَاءٌ عَنْ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ فَتَصِحُّ إضَافَتُهَا إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا فَلَا تَسْتَلْزِمُ الْإِضَافَةُ إلَى الْقَضِيَّةِ نَفْيَ الْقَضَاءِ، وَالْإِضَافَةُ إلَى الْقَضَاءِ يُفِيدُ ثُبُوتَهُ فَيَثْبُتُ مُفِيدُ ثُبُوتِهِ بِلَا مُعَارِضٍ. وَأَيْضًا فَالْحُكْمُ الثَّابِتُ فِيمَنْ شَرَعَ فِي إحْرَامٍ بِنُسُكٍ فَلَمْ يُتِمَّهُ لِإِحْصَارٍ فَحَلَّ أَنْ يَقْضِيَ وَهَذِهِ تَحْتَمِلُ الْقَضَاءَ فَوَجَبَ حَمْلُهَا عَلَيْهِ، وَعَدَمُ نَقْلِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ بِالْقَضَاءِ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ، بَلْ الْمُفِيدُ لَهُ نَقْلُ الْعَدَمِ لَا عَدَمُ النَّقْلِ. نَعَمْ هُوَ مِمَّا يُؤْنَسُ بِهِ فِي عَدَمِ الْوُقُوعِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَنُقِلَ، لَكِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الثَّابِتِ مَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ فِي مِثْلِهِ عَلَى الْعُمُومِ فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِعِلْمِهِمْ بِهِ وَقَضَائِهَا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ طَرِيقِ عِلْمِهِمْ.
الثَّالِثَةُ: عُمْرَتُهُ الَّتِي قَرَنَهَا مَعَ حَجَّتِهِ عَلَى مَا أَسْلَفْنَا إثْبَاتَهُ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ قَارِنًا أَوْ الَّتِي تَمَتَّعَ بِهَا إلَى الْحَجِّ عَلَى قول الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ حَجَّ مُتَمَتِّعًا، أَوْ الَّتِي اعْتَمَرَهَا فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ عَلَى قول الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ أَفْرَدَ وَاعْتَمَرَ، وَلَا عِبْرَةَ بِقول الرَّابِعِ.
الرَّابِعَةُ: عُمْرَتُهُ مِنْ الْجِعْرَانَةِ لَمَّا خَرَجَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى حُنَيْنٍ وَدَخَلَ بِهَذِهِ الْعُمْرَةِ إلَى مَكَّةَ لَيْلًا وَخَرَجَ مِنْهَا لَيْلًا إلَى الْجِعْرَانَةِ فَبَاتَ بِهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَزَالَتْ الشَّمْسُ خَرَجَ فِي بَطْنِ سَرِفَ حَتَّى جَامَعَ فِي الطَّرِيقِ، وَمِنْ ثَمَّةَ خَفِيَتْ هَذِهِ الْعُمْرَةُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ. وَأَمَّا أَنَّهُنَّ كُلُّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَلِمَا ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم: «لَمْ يَعْتَمِرْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا فِي ذِي الْقَعْدَةِ». وَأَمَّا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ عُمَرَ كُلُّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، إلَّا الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ» عُمْرَةٌ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ أَوْ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةٌ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةٌ مِنْ الْجِعْرَانَةِ حَيْثُ قَسَّمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةٌ مَعَ حَجَّتِهِ فَلَا يُنَافِيهِ؛ لِأَنَّ مَبْدَأَ عُمْرَةِ الْقِرَانِ كَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَفِعْلُهَا كَانَ فِي ذِي الْحِجَّةِ فَصَحَّ طَرِيقَا الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ. وَأَمَّا قول ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ أَرْبَعًا إحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ، فَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ لَمَّا بَلَغَهَا ذَلِكَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمْرَةً قَطُّ إلَّا وَهُوَ شَاهِدٌ، وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَائِشَةَ «خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةٍ فِي رَمَضَانَ» فَقَدْ حَكَمَ الْحُفَّاظُ بِغَلَطِ هَذَا الْحَدِيثِ، إذْ لَا خِلَافَ أَنَّ عُمَرَهُ كُلَّهَا لَمْ تَزِدْ عَنْ أَرْبَعٍ، وَقَدْ عَيَّنَهَا أَنَسٌ وَعَدَّهَا وَلَيْسَ فِيمَا ذُكِرَ شَيْءٌ مِنْهَا فِي غَيْرِ ذِي الْقَعْدَةَ سِوَى الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ، وَقَدْ جَمَعَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْوَجْهِ الصَّحِيحِ، فَلَوْ كَانَتْ لَهُ عُمْرَةٌ فِي رَجَبٍ وَأُخْرَى فِي رَمَضَانَ لَكَانَتْ سِتًّا، وَلَوْ كَانَتْ أُخْرَى فِي شَوَّالٍ كَمَا هُوَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اعْتَمَرَ فِي شَوَّالٍ كَانَتْ سَبْعًا». وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ فِيهِ وَجَبَ ارْتِكَابُهُ دَفْعًا لِلْمُعَارَضَةِ، وَمَا لَمْ يُمْكِنْ الْجَمْعُ فِيهِ حُكِمَ بِمُقْتَضَى الْأَصَحِّ وَالْأَثْبَتِ، وَهَذَا أَيْضًا يُمْكِنُ فِيهِ الْجَمْعُ بِإِرَادَةِ عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ فَإِنَّهُ خَرَجَ إلَى حُنَيْنٍ فِي شَوَّالٍ وَالْإِحْرَامُ بِهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَكَانَ مَجَازًا؛ لِلْقُرْبِ، هَذَا إنْ صَحَّ وَحُفِظَ، وَإِلَّا فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ الثَّابِتُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ كُلَّهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَقَعَ تَرَدُّدٌ لِبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ أَفْضَلَ أَوْقَاتِ الْعُمْرَةِ أَشْهُرُ الْحَجِّ أَوْ رَمَضَانُ، فَفِي رَمَضَانَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ، وَلَكِنَّ فِعْلَهُ لَمَّا لَمْ يَقَعْ إلَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ كَانَ ظَاهِرًا أَنَّهُ أَفْضَلُ إذْ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَخْتَارُ لِنَبِيِّهِ إلَّا مَا هُوَ الْأَفْضَلُ، أَوْ أَنَّ رَمَضَانَ أَفْضَلُ بِتَنْصِيصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ. وَتَرْكُهُ لِذَلِكَ؛ لِاقْتِرَانِهِ بِأَمْرٍ يَخُصُّهُ كَاشْتِغَالِهِ بِعِبَادَاتٍ أُخْرَى فِي رَمَضَانَ تَبَتُّلًا وَأَلَّا يَشُقَّ عَلَى أُمَّتِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ اعْتَمَرَ فِيهِ لَخَرَجُوا مَعَهُ وَلَقَدْ كَانَ بِهِمْ رَحِيمًا، وَقَدْ أَخْبَرَ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ أَنَّ تَرْكَهُ لَهَا؛ لِئَلَّا يَشُقَّ عَلَيْهِمْ مَعَ مَحَبَّتِهِ لَهُ كَالْقِيَامِ فِي رَمَضَانَ بِهِمْ وَمَحَبَّتِهِ لَأَنْ يُسْقِيَ بِنَفْسِهِ مَعَ سُقَاةِ زَمْزَمَ ثُمَّ تَرَكَهُ كَيْ لَا يَغْلِبَهُمْ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِهِمْ، وَلَمْ يَعْتَمِرْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً. وَمَا ظَنَّهُ بَعْضُهُمْ مِنْ حَدِيثٍ فِي أَبِي دَاوُد عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ عُمْرَتَيْنِ عُمْرَةً فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةً فِي شَوَّالٍ» وَلَيْسَ الْمُرَادُ ذِكْرَ جَمِيعِ مَا اعْتَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ اعْتَمَرَ أَكْثَرَ، فَكَانَ الْمُرَادُ ذِكْرَ أَنَّهُ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فِي سَنَةٍ يَجِبُ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ بِالْغَلَطِ، فَإِنَّهُ قَدْ تَظَافَرَ قول عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّهَا أَرْبَعٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأُولَى كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ، ثُمَّ لَمْ يَعْتَمِرْ إلَّا مِنْ قَابِلٍ سَنَةَ سَبْعٍ سِوَى الَّتِي فِي ذِي الْقَعْدَةِ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، ثُمَّ لَمْ يَخْرُجْ إلَى مَكَّةَ حَتَّى فَتَحَهَا سَنَةَ ثَمَانٍ فِي رَمَضَانَ وَلَمْ يَعْتَمِرْ فِي دُخُولِهِ فِي الْفَتْحِ، ثُمَّ أُخْرِجَ إلَى حُنَيْنٍ فِي شَوَّالٍ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ ثُمَّ رَجَعَ مِنْهَا فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَمَتَى اعْتَمَرَ فِي شَوَّالٍ؟ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَلَا عِلْمَ إلَّا مَا عَلَّمَ.

متن الهداية:
(وَالْعُمْرَةُ سُنَّةٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَرِيضَةٌ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «الْعُمْرَةُ فَرِيضَةٌ كَفَرِيضَةِ الْحَجِّ» وَلَنَا قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «الْحَجُّ فَرِيضَةٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ»؛ وَلِأَنَّهَا غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ بِوَقْتٍ وَتَتَأَدَّى بِنِيَّةِ غَيْرِهَا كَمَا فِي فَائِتِ الْحَجِّ، وَهَذِهِ أَمَارَةُ النَّفْلِيَّةِ. وَتَأْوِيلُ مَا رَوَاهُ أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِأَعْمَالٍ كَالْحَجِّ إذْ لَا تَثْبُتُ الْفَرْضِيَّةُ مَعَ التَّعَارُضِ فِي الْآثَارِ. قَالَ: (وَهِيَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ التَّمَتُّعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَالْعُمْرَةُ سُنَّةٌ) أَيْ مَنْ أَتَى بِهَا مَرَّةً فِي الْعُمُرِ فَقَدْ أَقَامَ السُّنَّةَ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِوَقْتٍ غَيْرَ مَا ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْهَا فِيهِ، إلَّا أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ أَفْضَلُ، هَذَا إذَا أَفْرَدَهَا فَلَا يُنَافِيهِ أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَى الْحَجِّ لَا إلَى الْعُمْرَةِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ أَرَادَ الْإِتْيَانَ بِالْعُمْرَةِ عَلَى وَجْهٍ أَفْضَلَ فِيهَا فَفِي رَمَضَانَ أَوْ الْحَجَّ عَلَى وَجْهٍ أَفْضَلَ فِيهِ فَبِأَنْ يَقْرِنَ مَعَهُ عُمْرَةً.
قولهُ: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَرِيضَةٌ) وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ مِنْ مَشَايِخِ بُخَارَى: فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَقِيلَ هِيَ وَاجِبَةٌ. وَجْهُ قول الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِمَا بَدَأْتَ» قَالَ الْحَاكِمُ: الصَّحِيحُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مِنْ قولهِ. اهـ. وَفِيهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ الْمَكِّيُّ ضَعَّفُوهُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: حَذَفْنَا حَدِيثَهُ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ مَوْقُوفًا وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنْ تُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَأَنْ تَحُجَّ وَتَعْتَمِرَ» قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي كِتَابِهِ الْمُخَرَّجِ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَيْسَ فِيهِ وَتَعْتَمِرَ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ فِيهَا شُذُوذٌ، وَفِيهِ أَحَادِيثُ أُخَرُ لَمْ تَسْلَمْ مِنْ ضَعْفٍ أَوْ عَدَمِ دَلَالَةٍ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ:
«لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ وَاجِبَتَانِ عَلَى مَنْ اسْتَطَاعَ إلَى ذَلِكَ سَبِيلًا» وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ. وَأَخْرَجَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ إلَّا أَهْلَ مَكَّةَ فَإِنَّ عُمْرَتَهُمْ طَوَافُهُمْ، فَلْيَخْرُجُوا إلَى التَّنْعِيمِ ثُمَّ لْيَدْخُلُوهَا» الْحَدِيثَ، وَقَالَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُنَاظَرَةِ مَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ الْقول بِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ: أَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ قَرَنَهَا بِالْحَجِّ. وَلَنَا مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ قَالَ لَا، وَأَنْ تَعْتَمِرَ فَهُوَ أَفْضَلُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، هَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ لَا غَيْرُ. قِيلَ هُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ أَرْطَاةَ هَذَا فِيهِ مَقَالٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي بَابِ الْقِرَانِ مَا فِيهِ وَأَنَّهُ لَا يَنْزِلُ بِهِ عَنْ كَوْنِ حَدِيثِهِ حَسَنًا وَالْحَسَنُ حُجَّةٌ اتِّفَاقًا، وَإِنْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ إنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ أَرْطَاةَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ فَقَدْ اتَّفَقَتْ الرُّوَاةُ عَنْ التِّرْمِذِيِّ عَلَى تَحْسِينِ حَدِيثِهِ هَذَا، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَالدَّارَقُطْنِيّ بِطَرِيقٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ فِيهِ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ وَضَعَّفَهُ. وَرَوَى عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ» وَهُوَ أَيْضًا حُجَّةٌ، وَقول ابْنِ حَزْمٍ إنَّهُ مُرْسَلٌ رَوَاهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَاهَانَ الْحَنَفِيِّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَتَضْعِيفُ عَبْدِ الْبَاقِي وَمَاهَانُ اعْتَرَضَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْإِمَامِ بِأَنَّ عَبْدَ الْبَاقِي بْنَ قَانِعٍ مِنْ كِبَارِ الْحُفَّاظِ وَبَاقِي الْإِسْنَادِ ثِقَاتٌ، مَعَ أَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا عَلَى التَّنَزُّلِ. قَالَ: وَتَضْعِيفُ مَاهَانَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مَشَاهِيرُ وَذَكَرَهُمْ. وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي سَنَدِهِ مَجَاهِيلُ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ» وَفِيهِ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ. قَالَ فِي الْإِمَامِ: مُتَكَلَّمٌ فِيهِ.اهـ. وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يُخْرِجُ حَدِيثَهُ عَنْ الْحَسَنِ فَلَا يَنْزِلُ عَنْ مُطْلَقِ الْحُجِّيَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «الْحَجُّ فَرِيضَةٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ» وَكَفَى بِعَبْدِ اللَّهِ قُدْوَةً. فَبَعْدَ إرْخَاءِ الْعِنَانِ فِي تَحْسِينِ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ تَعَدُّدُ طُرُقِهِ يَرْفَعُهُ إلَى دَرَجَةِ الصَّحِيحِ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ، كَمَا أَنَّ تَعَدُّدَ طُرُقِ الضَّعِيفِ يَرْفَعُهُ إلَى الْحَسَنِ؛ لِضَعْفِ الِاحْتِمَالِ بِهَا، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فَقَامَ رُكْنُ الْمُعَارَضَةِ، وَالِافْتِرَاضُ لَا يَثْبُتُ مَعَ الْمُعَارَضَةِ؛ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ تَمْنَعُهُ عَنْ إثْبَاتِ مُقْتَضَاهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قول الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْفَرْضُ الظَّنِّيُّ وَهُوَ الْوُجُوبُ عِنْدَنَا، وَمُقْتَضَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَنْ لَا يَثْبُتَ مُقْتَضَى مَا رَوَيْنَاهُ أَيْضًا؛ لِلِاشْتِرَاكِ فِي مُوجِبِ الْمُعَارَضَةِ. فَحَاصِلُ التَّقْرِيرِ حِينَئِذٍ تَعَارُضُ مُقْتَضَيَاتِ الْوُجُوبِ وَالنَّفَلِ فَلَا يَثْبُتُ وَيَبْقَى مُجَرَّدُ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ، وَذَلِكَ يُوجِبُ السُّنِّيَّةَ فَقُلْنَا بِهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
فُرُوعٌ:
وَإِنْ اُسْتُفِيدَ شَيْءٌ مِنْهَا مِمَّا تَقَدَّمَ فَإِنِّي لَا أَكْرَهُ تَكْرَارَهَا، فَإِنَّ تَعَدُّدَ الْمَوَاقِعِ يُوَسِّعُ بَابَ الْوِجْدَانِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ. إحْرَامُ فَائِتِ الْحَجِّ حَالَ التَّحَلُّلِ بِالْعُمْرَةِ إحْرَامُ الْحَجِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَصِيرُ إحْرَامَ عُمْرَةٍ، وَعِنْدَ زُفَرَ الْمَفْعُولُ أَيْضًا أَفْعَالُ الْحَجِّ مِنْ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ عَجَزَ عَنْ الْكُلِّ فَإِنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. الثَّابِتُ شَرْعًا التَّحَلُّلُ بَعْدَ الْوُقُوفِ لَا قَبْلَهُ، وَلَا تَحَلُّلَ إلَّا بِطَوَافٍ بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِ الْوُقُوفِ، فَلَوْ قَدِمَ مُحْرِمٌ بِحَجَّةٍ فَطَافَ وَسَعَى ثُمَّ خَرَجَ إلَى الرَّبَذَةِ مَثَلًا فَأُحْصِرَ بِهَا حَتَّى فَاتَهُ الْحَجُّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحِلَّ بِعُمْرَةٍ، وَلَا يَكْفِيهِ طَوَافُ التَّحِيَّةِ وَالسَّعْيِ فِي التَّحَلُّلِ حَتَّى لَوْ كَانَ قَارِنًا، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ عُمْرَتِهِ الَّتِي قَرَنَهَا؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا، وَإِنْ كَانَ قَارِنًا وَلَمْ يَطُفْ شَيْئًا حَتَّى فَاتَهُ يَطُوفُ الْآنَ لِعُمْرَتِهِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَفُوتُ وَيَسْعَى، وَلَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ عِنْدَهَا، وَإِنَّمَا يَقْطَعُهَا إذَا أَخَذَ فِي الطَّوَافِ الَّذِي يَتَحَلَّلُ بِهِ عَنْ الْإِحْرَامِ فِي الْحَجِّ. وَمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَمَكَثَ حَرَامًا حَتَّى دَخَلَتْ أَشْهُرُ الْحَجِّ مِنْ قَابِلٍ فَتَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا، وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إحْرَامَ حَجِّهِ بَاقٍ، إذْ لَوْ انْقَلَبَ إحْرَامَ عُمْرَةٍ كَانَ مُتَمَتِّعًا إذْ لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّمَتُّعِ تَقَدُّمُ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ عَلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ بَعْدَ أَنْ أَوْقَعَ أَفْعَالَهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَيْسَ لِفَائِتِ الْحَجِّ أَنْ يَحُجَّ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ، وَإِنْ قُلْنَا بِبَقَاءِ إحْرَامِ حَجٍّ، حَتَّى لَوْ مَكَثَ مُحْرِمًا إلَى قَابِلٍ لَمْ يَفْعَلْ أَفْعَالَ عُمْرَةِ التَّحَلُّلِ، وَأَرَادَ أَنْ يَحُجَّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ إحْرَامِ حَجِّهِ تَغَيَّرَ شَرْعًا بِالْفَوَاتِ فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ غَيْرُ مُوجِبِهِ، فَلَا يَتَمَكَّنُ أَبُو يُوسُفَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا عَلَى صَيْرُورَتِهَا إحْرَامَ عُمْرَةٍ، وَلَا فَرْقَ فِي وُجُوبِ التَّحَلُّلِ بِعُمْرَةٍ بَيْنَ كَوْنِ الْفَوَاتِ حَالَ الصِّحَّةِ أَوْ بَعْدَمَا فَسَدَ بِالْجِمَاعِ. وَلَوْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَأَهَلَّ بِأُخْرَى طَافَ لِلْفَائِتَةِ وَسَعَى وَرَفَضَ الَّتِي أَدْخَلَهَا؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ التَّحَلُّلِ بِالْعُمْرَةِ جَامَعَ بَيْنَ إحْرَامَيْ حَجَّتَيْنِ، وَعَلَيْهِ فِيهَا مَا عَلَى الرَّافِضِ. وَلَوْ نَوَى بِهَذِهِ الَّتِي أَهَلَّ بِهَا قَضَاءَ الْفَائِتَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ بِهَذَا الْإِهْلَالِ شَيْءٌ سِوَى الَّتِي هُوَ فِيهَا؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ بَعْدَ الْفَوَاتِ بَاقٍ، وَنِيَّةُ إيجَادِ مَا هُوَ مَوْجُودٌ لَغْوٌ فَيَتَحَلَّلُ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَيَقْضِي الْفَائِتَ فَقَطْ، فَلَوْ كَانَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ رَفَضَهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ جَامِعٌ بَيْنَ عُمْرَتَيْنِ إحْرَامًا عَلَى قول أَبِي يُوسُفَ وَعَمَلًا عَلَى قولهِمَا. وَلَوْ أَهَلَّ رَجُلٌ بِحَجَّتَيْنِ فَقَدِمَ مَكَّةَ وَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ تَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ وَاحِدَةٍ لَا بِعُمْرَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّرْكِ وَالشُّرُوعِ رَفَضَ إحْدَاهُمَا، وَالتَّحَلُّلُ بِالْعُمْرَةِ إنَّمَا يَجِبُ لِغَيْرِ مَا رَفَضَ وَذَلِكَ وَاحِدَةٌ.


.بَابُ الْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ:

الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَ عَمَلِهِ لِغَيْرِهِ صَلَاةً أَوْ صَوْمًا أَوْ صَدَقَةً أَوْ غَيْرَهَا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «أَنَّهُ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَحَدَهُمَا عَنْ نَفْسِهِ وَالْآخَرَ عَنْ أُمَّتِهِ مِمَّنْ أَقَرَّ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَشَهِدَ لَهُ بِالْبَلَاغِ» جَعَلَ تَضْحِيَةَ إحْدَى الشَّاتَيْنِ لِأُمَّتِهِ. وَالْعِبَادَاتُ أَنْوَاعٌ: مَالِيَّةٌ مَحْضَةٌ كَالزَّكَاةِ، وَبَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ كَالصَّلَاةِ، وَمُرَكَّبَةٌ مِنْهُمَا كَالْحَجِّ، وَالنِّيَابَةُ تَجْرِي فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ فِي حَالَتَيْ الِاخْتِيَارِ وَالضَّرُورَةِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِفِعْلِ النَّائِبِ، وَلَا تَجْرِي فِي النَّوْعِ الثَّانِي بِحَالٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ إتْعَابُ النَّفْسِ لَا يَحْصُلُ بِهِ، وَتَجْرِي فِي النَّوْعِ الثَّالِثِ عِنْدَ الْعَجْزِ لِلْمَعْنَى الثَّانِي وَهُوَ الْمَشَقَّةُ بِتَنْقِيصِ الْمَالِ، وَلَا تَجْرِي عِنْدَ الْقُدْرَةِ لِعَدَمِ إتْعَابِ النَّفْسِ، وَالشَّرْطُ الْعَجْزُ الدَّائِمُ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ لِأَنَّ الْحَجَّ فَرْضُ الْعُمْرِ، وَفِي الْحَجِّ النَّفْلِ تَجُوزُ الْإِنَابَةُ حَالَةَ الْقُدْرَةِ لِأَنَّ بَابَ النَّفْلِ أَوْسَعُ، ثُمَّ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ وَبِذَلِكَ تَشْهَدُ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي الْبَابِ كَحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيه: «حُجِّي عَنْ أَبِيكِ وَاعْتَمِرِي». وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْحَاجِّ، وَلِلْآمِرِ ثَوَابُ النَّفَقَةِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، وَعِنْدَ الْعَجْزِ أُقِيمَ الْإِنْفَاقُ مُقَامَهُ كَالْفِدْيَةِ فِي بَابِ الصَّوْمِ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ الْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ) إدْخَالُ اللَّامِ عَلَى غَيْرِ غَيْرُ وَاقِعٍ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ بَلْ هُوَ مَلْزُومُ الْإِضَافَةِ، وَلَمَّا كَانَ الْأَصْلُ كَوْنَ عَمَلِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ لَا لِغَيْرِهِ قَدَّمَ مَا تَقَدَّمَ.
قولهُ: (أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَ عَمَلِهِ لِغَيْرِهِ صَلَاةً أَوْ صَوْمًا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ) لَا يُرَادُ بِهِ أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي أَنَّ لَهُ ذَلِكَ أَوْ لَيْسَ لَهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرُهُ، بَلْ فِي أَنَّهُ يَنْجَعِلُ بِالْجَعْلِ أَوَّلًا بَلْ يَلْغُو جَعْلُهُ.
قولهُ: (أَوْ غَيْرِهَا) كَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَالْأَذْكَارِ.
قولهُ: (عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ) لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْمُخَالِفَ لِمَا ذَكَرَ خَارِجٌ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا يَقولانِ بِوُصُولِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الْمَحْضَةِ كَالصَّلَاةِ وَالتِّلَاوَةِ بَلْ غَيْرِهَا كَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ، بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ أَصْحَابَنَا لَهُمْ كَمَالُ الِاتِّبَاعِ وَالتَّمَسُّكِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ، فَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِاسْمِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا غَيْرَ أَنَّ لَهُمْ وَصْفًا عَبَّرَ عَنْهُمْ بِهِ. وَخَالَفَ فِي كُلِّ الْعِبَادَاتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَتَمَسَّكُوا بِقولهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى} وَسَعْيُ غَيْرِهِ لَيْسَ سَعْيَهُ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مَسُوقَةً قَصًّا لِمَا فِي صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَحَيْثُ لَمْ يُتَعَقَّبْ بِإِنْكَارٍ كَانَ شَرِيعَةً لَنَا عَلَى مَا عُرِفَ. وَالْجَوَابُ أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِيمَا قَالُوهُ لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا نُسِخَتْ أَوْ مُقَيَّدَةُ، وَقَدْ ثَبَتَ مَا يُوجِبُ الْمَصِيرَ إلَى ذَلِكَ وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنْ نَفْسِهِ وَالْآخَرُ عَنْ أُمَّتِهِ». وَالْمَلْحَةُ بَيَاضٌ يَشُوبُهُ شَعَرَاتٌ سُودٌ.
وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ بِسَنَدِهِ عَنْ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ يَشْتَرِيَ كَبْشَيْنِ عَظِيمَيْنِ سَمِينَيْنِ أَقَرْنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ، فَذَبَحَ أَحَدَهُمَا عَنْ أُمَّتِهِ مِمَّنْ شَهِدَ لِلَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَلَهُ بِالْبَلَاغِ، وَذَبَحَ الْآخَرَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ» وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي تَرْجَمَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يقول: «ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَقَرْنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ فَلَمَّا وَجَّهَهُمَا قَالَ: {إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي} الْآيَةَ، اللَّهُمَّ لَكَ وَمِنْكَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ، بِاسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ ذَبَحَ» وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ بِنَقْصٍ فِي الْمَتْنِ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ عَظِيمَيْنِ أَقَرْنَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ، فَأَضْجَعَ أَحَدَهُمَا وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ أَضْجَعَ الْآخَرَ وَقَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ مِمَّنْ شَهِدَ لَك بِالتَّوْحِيدِ وَشَهِدَ لِي بِالْبَلَاغِ» وَكَذَا رَوَاهُ إِسْحَاقُ وَأَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدَيْهِمَا. وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَزَّارُ وَالْحَاكِمُ. وَمِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدَ الْغِفَارِيُّ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْفَضَائِلِ. وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمِنْ طَرِيقِهِ، رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ. وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا وَالدَّارَقُطْنِيّ، فَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ عِدَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَانْتَشَرَتْ مُخْرِجُوهُ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ وَهُوَ أَنَّهُ ضَحَّى عَنْ أُمَّتِهِ مَشْهُورًا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْكِتَابِ بِهِ بِمَا لَمْ يَجْعَلْهُ صَاحِبُهُ، أَوْ نَنْظُرُ إلَيْهِ وَإِلَى مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كَانَ لِي أَبَوَانِ أَبَرُّهُمَا حَالَ حَيَاتِهِمَا فَكَيْفَ لِي بِبِرِّهِمَا بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ فَقَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ مِنْ الْبِرِّ بَعْدَ الْمَوْتِ أَنْ تُصَلِّيَ لَهُمَا مَعَ صَلَاتِكَ، وَتَصُومَ لَهُمَا مَعَ صِيَامِكَ» وَإِلَى مَا رَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال: «مَنْ مَرَّ عَلَى الْمَقَابِرِ وَقَرَأَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} إحْدَى عَشْرَةَ مَرَّةً ثُمَّ وَهَبَ أَجْرَهَا لِلْأَمْوَاتِ أُعْطِيَ مِنْ الْأَجْرِ بِعَدَدِ الْأَمْوَاتِ» وَإِلَى مَا عَنْ أَنَسٍ «أَنَّهُ سَأَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نَتَصَدَّقُ عَنْ مَوْتَانَا وَنَحُجُّ عَنْهُمْ وَنَدْعُو لَهُمْ فَهَلْ يَصِلُ ذَلِكَ إلَيْهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، إنَّهُ لَيَصِلُ إلَيْهِمْ وَإِنَّهُمْ لَيَفْرَحُونَ بِهِ كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالطَّبَقِ إذَا أُهْدِيَ إلَيْهِ» رَوَاهُ أَبُو حَفْصٍ الْكَبِيرُ الْعُكْبَرِيُّ. وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَءُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ يس» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. فَهَذِهِ الْآثَارُ وَمَا قَبْلَهَا وَمَا فِي السُّنَّةِ أَيْضًا مِنْ نَحْوِهَا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ تَرَكْنَاهُ لِحَالِ الطُّولِ يَبْلُغُ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْكُلِّ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ جَعَلَ شَيْئًا مِنْ الصَّالِحَاتِ لِغَيْرِهِ نَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ، وَكَذَا مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ لِلْوَالِدَيْنِ فِي قوله تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} وَمِنْ الْإِخْبَارِ بِاسْتِغْفَارِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ قَالَ تَعَالَى: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} وَسَاقَ عِبَارَتَهُمْ {رَبَّنَا وَسِعْت كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} إلَى قوله: {وَقِهمْ السَّيِّئَاتِ} قَطْعِيٌّ فِي حُصُولِ الِانْتِفَاعِ بِعَمَلِ الْغَيْرِ فَيُخَالِفُ ظَاهِرَ الْآيَةِ الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا، إذْ ظَاهِرُهَا أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ اسْتِغْفَارُ أَحَدٍ لِأَحَدٍ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ سَعْيِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ مِنْهُ شَيْءٌ فَقَطَعْنَا بِانْتِفَاءِ إرَادَةِ ظَاهِرِهَا عَلَى صِرَافَتِهِ فَتَتَقَيَّدُ بِمَا لَمْ يَهَبْهُ الْعَامِلُ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ النَّسْخِ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ أَسْهَلُ إذْ لَمْ يَبْطُلْ بَعْدَ الْإِرَادَةِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ الْإِخْبَارَاتِ وَلَا يَجْرِي النَّسْخُ فِي الْخَبَرِ، وَمَا يُتَوَهَّمُ جَوَابًا مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ فِي شَرِيعَةِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَنْ لَا يَجْعَلَ الثَّوَابَ لِغَيْرِ الْعَامِلِ ثُمَّ جَعَلَهُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ شَرِيعَتِنَا حَقِيقَةُ مَرْجِعِهِ إلَى تَقْيِيدِ الْإِخْبَارِ لَا إلَى النَّسْخِ إذْ حَقِيقَتُهُ أَنْ يُرَادَ الْمَعْنَى ثُمَّ تُرْفَعَ إرَادَتُهُ، وَهَذَا تَخْصِيصٌ بِالْإِرَادَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَهْلِ تِلْكَ الشَّرَائِعِ وَلَمْ يَقَعْ نَسْخٌ لَهُمْ، وَلَمْ يَرِدْ الْإِخْبَارُ أَيْضًا فِي حَقِّنَا ثُمَّ نُسِخَ. وَأَمَّا جَعْلُ اللَّامِ فِي لِلْإِنْسَانِ بِمَعْنَى عَلَى فَبَعِيدٌ مِنْ ظَاهِرِهَا وَمِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ أَيْضًا، فَإِنَّهَا وَعْظٌ لِلَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى، وَقَدْ ثَبَتَ فِي ضِمْنِ إبْطَالِنَا لِقول الْمُعْتَزِلَةِ انْتِفَاءُ قول الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ بِمَا فِي الْآثَارِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُوَفِّقُ.
قولهُ: (لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ) الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْ التَّكَالِيفِ الِابْتِلَاءُ لِيَظْهَرَ مِنْ الْمُكَلَّفِ مَا سَبَقَ الْعِلْمُ الْأَزَلِيُّ بِوُقُوعِهِ مِنْهُ مِنْ الِامْتِثَالِ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا أُمِرَ بِهِ تَارِكًا هَوَى نَفْسِهِ لِإِقَامَةِ أَمْرِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَيُثَابُ. أَوْ الْمُخَالَفَةِ فَيُعْفَى عَنْهُ، أَوْ يُعَاقَبُ فَتَتَحَقَّقُ بِذَلِكَ آثَارُ صِفَاتِهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ تَعَالَى اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ الْبَاهِرَةُ وَكَمَالُ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ بِمَا عَلِمَ أَنَّهُ سَيَقَعُ مِنْ الْمُخَالَفَةِ قَبْلَ ظُهُورِهِ عَنْ اخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ. ثُمَّ مِنْ التَّكَالِيفِ الْعِبَادَاتُ وَهِيَ بَدَنِيَّةٌ وَمَالِيَّةٌ وَمُرَكَّبَةٌ مِنْهُمَا، وَالْمَشَقَّةُ فِي الْبَدَنِيَّةِ تَقَيُّدُ الْجَوَارِحِ وَالنَّفْسِ بِالْأَفْعَالِ الْمَخْصُوصَةِ فِي مَقَامِ الْخِدْمَةِ.
وَفِي الْمَالِيَّةِ فِي تَنْقِيصِ الْمَالِ الْمَحْبُوبِ لِلنَّفْسِ، وَفِيهَا مَقْصُودٌ آخَرُ وَهُوَ سَدُّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ، وَالْمَشَقَّةُ فِيهَا لَيْسَ بِهِ بَلْ بِالتَّنْقِيصِ فَكُلُّ مَا تَضَمَّنَ الْمَشَقَّةَ لَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَتِهِ إلَّا بِفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ إذْ بِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ مَقْصُودُ الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ فَلِذَا لَمْ تَجُزْ النِّيَابَةُ فِي الْبَدَنِيَّةِ لِأَنَّ فِعْلَ غَيْرِهِ لَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْإِشْفَاقُ عَلَى نَفْسِهِ بِمُخَالَفَةِ هَوَاهَا بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْمَالِيَّةُ فَمَا فِيهِ الْمَشَقَّةُ مِنْ أَحَدِ مَقْصُودٍ بِهَا وَهُوَ تَنْقِيصُ الْمَالِ بِإِخْرَاجِهِ لَمْ تَجُزْ فِيهِ النِّيَابَةُ وَلَا يَقُومُ بِهِ غَيْرُهُ إذْ لَا بُدَّ مِنْ إذْنِهِ. وَالْوَاقِعُ مِنْ النَّائِبِ لَيْسَ إلَّا الْمُنَاوَلَةُ لِلْفَقِيرِ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ الْآخَرُ الَّذِي هُوَ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَا مَشَقَّةَ بِهِ عَلَى الْمَالِكِ. وَعَلَى هَذَا كَانَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَنْ لَا تَجْرِيَ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ لِتَضَمُّنِهِ الْمَشَقَّتَيْنِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، وَالْأَوْلَى لَمْ تَقُمْ بِالْآمِرِ لَكِنَّهُ تَعَالَى رَخَّصَ فِي إسْقَاطِهِ بِتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ الْأُخْرَى: أَعْنِي إخْرَاجَ الْمَالِ عِنْدَ الْعَجْزِ الْمُسْتَمِرِّ إلَى الْمَوْتِ رَحْمَةً وَفَضْلًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَدْفَعَ نَفَقَةَ الْحَجِّ إلَى مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، بِخِلَافِ حَالِ الْقُدْرَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْذُرْهُ لِأَنَّ تَرْكَهُ فِيهَا لَيْسَ إلَّا لِمُجَرَّدِ إيثَارِ رَاحَةِ نَفْسِهِ عَلَى أَمْرِ رَبِّهِ، وَهُوَ بِهَذَا يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ لَا التَّخْفِيفَ فِي طَرِيقِ الْإِسْقَاطِ وَإِنَّمَا شَرَطَ دَوَامَهُ إلَى الْمَوْتِ لِأَنَّ الْحَجَّ فَرْضُ الْعُمْرِ، فَحَيْثُ تَعَلَّقَ بِهِ خِطَابُهُ لِقِيَامِ الشُّرُوطِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ هُوَ بِنَفْسِهِ فِي أَوَّلِ أَعْوَامِ الْإِمْكَانِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ أَثِمَ وَتَقَرَّرَ الْقِيَامُ بِهَا بِنَفْسِهِ فِي ذِمَّتِهِ فِي مُدَّةِ عُمْرِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَّصِفٍ بِالشُّرُوطِ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ وَهُوَ أَنْ يَعْجِزَ عَنْهُ فِي مُدَّةِ عُمْرِهِ رَخَّصَ لَهُ الِاسْتِنَابَةَ رَحْمَةً وَفَضْلًا مِنْهُ، فَحَيْثُ قَدَرَ عَلَيْهِ وَقْتًا مَا مِنْ عُمْرِهِ بَعْدَمَا اسْتَنَابَ فِيهِ لِعَجْزٍ لَحِقَهُ ظَهَرَ انْتِفَاءُ شَرْطِ الرُّخْصَةِ، فَلِذَا لَوْ أَحَجَّ عَنْهُ غَيْرُهُ لِمَرَضٍ يُرْجَى زَوَالُهُ أَوَّلًا، أَوْ كَانَ مَحْبُوسًا كَانَ أَمْرُهُ مُرَاعًى إنْ اسْتَمَرَّ بِذَلِكَ الْمَانِعِ حَتَّى مَاتَ ظَهَرَ أَنَّهُ وَقَعَ مُجْزِيًا، وَإِنْ عُوفِيَ أَوْ خُلِّصَ مِنْ السِّجْنِ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مُجْزِيًا وَظَهَرَ وُجُوبُ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ أَحَجَّ صَحِيحٌ غَيْرَهُ ثُمَّ عَجَزَ لَا يَجْزِيهِ، كَذَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ أَذِنَ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ الرُّخْصَةِ. وَلَا يَتَخَايَلُ خِلَافُ هَذَا مِمَّا فِي الْفَتَاوَى أَيْضًا، قَالَ: إذَا قَالَ رَجُلٌ لِلَّهِ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ حَجَّةً فَأَحَجَّ عَنْهُ ثَلَاثِينَ نَفْسًا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، إنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ وَقْتُ الْحَجِّ جَازَ عَنْ الْكُلِّ لِأَنَّهُ لَمْ تُعْرَفْ قُدْرَتُهُ بِنَفْسِهِ عِنْدَ مَجِيءِ وَقْتِ الْحَجِّ فَجَازَ، وَإِنْ جَاءَ وَقْتُ الْحَجِّ وَهُوَ يَقْدِرُ بَطَلَتْ حَجَّتُهُ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ بِنَفْسِهِ عَلَيْهَا فَانْعَدَمَ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِحْجَاجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَعَلَى هَذَا كُلُّ سَنَةٍ تَجِيءُ وَفِيهَا الْمَرْأَةُ إذَا لَمْ تَجِدْ مُحْرِمًا لَا تَخْرُجُ إلَى الْحَجِّ إلَى أَنْ تَبْلُغَ الْوَقْتَ الَّذِي تَعْجِزَ عَنْ الْحَجِّ فِيهِ فَحِينَئِذٍ تَبْعَثَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهَا، أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ لِتَوَهُّمِ وُجُودِ الْمُحْرِمِ، فَإِنْ بَعَثَتْ رَجُلًا إنْ دَامَ عَدَمُ وُجُودِ الْمُحْرِمِ إلَى أَنْ مَاتَتْ فَذَلِكَ جَائِزٌ كَالْمَرِيضِ إذَا أَحَجَّ عَنْهُ رَجُلًا وَدَامَ الْمَرَضُ إلَى أَنْ مَاتَ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْحَجِّ مِنْ كَوْنِ شَرْطِ الْإِحْجَاجِ عَنْ الْفَرِيضَةِ مَجِيءُ الْوَقْتِ وَهُوَ قَادِرٌ فَلَا يَحُجُّ حَتَّى يَعْرِضَ الْمَانِعُ وَيَدُومَ إلَى الْمَوْتِ، فَلَوْ أَوْصَى قَبْلَ الْوَقْتِ فَمَاتَ لَا يَصِحُّ. وَقَدَّمْنَا مِنْ اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ فِي نَصْرَانِيٍّ أَسْلَمَ أَوْ صَبِيٍّ بَلَغَ فَمَاتَ قَبْلَ إدْرَاكِ الْوَقْتِ وَأَوْصَيَا بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ عَلَى قول زُفَرَ لِمَا قُلْنَا، وَجَائِزَةٌ عَلَى قول أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ السَّبَبَ تَقَرَّرَ فِي حَقِّهِمَا وَالْوَقْتُ شَرْطُ الْأَدَاءِ، وَفِيهِ نَظَرٌ أَوَّلًا فِي كَوْنِهِ شَرْطِ الْأَدَاءِ بَلْ هُوَ شَرْطُ الْوُجُوبِ. وَالسَّبَبُ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْبَيْتُ لَكِنَّ الْمُوصَى بِهِ لَيْسَ مُطْلَقَ الْحَجِّ لِيَلْزَمَ الْوَرَثَةَ إنْ وَسِعَ الثُّلُثُ بَلْ الْحَجُّ الْفَرْضُ وَقَدْ تَحَقَّقْنَا عَدَمَهُ عَلَيْهِمَا إلَى أَنْ مَاتَا، فَقول زُفَرَ أَنْظُرُ.
وَفِي الْبَدَائِعِ. لَوْ كَانَ فَقِيرًا صَحِيحَ الْبَدَنِ لَا يَجُوزُ حَجُّ غَيْرِهِ عَنْهُ لِأَنَّ الْمَالَ شَرْطُ الْوُجُوبِ، فَإِذْ لَا مَالَ لَا وُجُوبَ فَلَا يَنُوبُ عَنْهُ غَيْرُهُ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ وَلَا وَاجِبَ حِينَئِذٍ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. أَمَّا الْحَجُّ النَّفَلُ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَجْزُ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ وَاحِدَةً مِنْ الْمَشَقَّتَيْنِ، فَإِذَا كَانَ لَهُ تَرْكُهُمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَتَحَمَّلَ إحْدَاهُمَا تَقَرُّبًا إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ الِاسْتِنَابَةُ فِيهِ صَحِيحًا. ثُمَّ إنَّ وُجُوبَ الْإِيصَاءِ إنَّمَا يَثْبُتُ ابْتِدَاءً إذَا كَانَ صَحِيحَ الْبَدَنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحُهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِحْجَاجُ. وَعِنْدَهُمَا إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ تَعَلَّقَ بِهِ وَإِنْ كَانَ زَمَنًا أَوْ مَفْلُوجًا عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ أَنَّ مِنْ الشَّرَائِطِ عِنْدَهُ صِحَّةَ الْجَوَارِحِ خِلَافًا لَهُمَا، وَأَسْلَفْنَا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْحَجِّ أَنَّ قولهُمَا رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْهُ وَأَنَّهَا أَوْجَهُ وَذَكَرْنَا الْوَجْهَ ثَمَّةَ فَلْيُرَاجَعْ. ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي أَنَّ نَفْسَ الْحَجِّ يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ أَوْ عَنْ الْمَأْمُورِ. فَعَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ الْمَأْمُورِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أُقِيمَ الْإِنْفَاقُ عَلَى الْحَاجِّ مَقَامَ نَفْسِ الْفِعْلِ شَرْعًا كَالشَّيْخِ الْفَانِي حَيْثُ أُقِيمَ الْإِطْعَامُ فِي حَقِّهِ مَقَامَ الصَّوْمِ، قَالُوا: إنَّ بَعْضَ الْفُرُوعِ ظَاهِرَةٌ فِي هَذَا وَسَيَأْتِي وَعَلَيْهِ جَمْعٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ والإسبيجابي وَقَاضِي خَانْ، حَتَّى نَسَبَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ هَذَا لِأَصْحَابِنَا فَقَالَ عَلَى قول أَصْحَابِنَا: أَصْلُ الْحَجِّ عَنْ الْمَأْمُورِ. وَمُخْتَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ وَجَمْعٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَيَشْهَدُ بِذَلِكَ الْآثَارُ مِنْ السُّنَّةِ وَمِنْ الْمَذْهَبِ بَعْضُ الْفُرُوعِ. فَمِنْ الْآثَارِ حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ، وَهُوَ «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ نَعَمْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَقَدْ أَطْلَقَ عَلَى فِعْلِهَا الْحَجَّ كَوْنَهُ عَنْهُ، وَكَذَا قولهُ لِلرَّجُل: «حُجَّ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَأَمَّا الْفُرُوعُ فَإِنَّ الْمَأْمُورَ لَا يُسْقِطُ عَنْهُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الْحَجَّةِ، فَلَوْ كَانَتْ عَنْهُ لَسَقَطَتْ، إذْ الْفَرْضُ أَنَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ تَتَأَدَّى بِإِطْلَاقِ النِّيَّةِ وَتَلْغُو الْجِهَةُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ، وَفِيهِ تَأَمُّلٌ. وَلَمْ يَسْتَدِلَّ فِي الْبَدَائِعِ بَعْدَ حَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ سِوَى بِاحْتِيَاجِ النَّائِبِ إلَى إسْنَادِ الْحَجِّ إلَى الْمَحْجُوجِ عَنْهُ فِي النِّيَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَقَعْ نَفْسُ الْحَجِّ عَنْ الْآمِرِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى نِيَّتِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ شَرْطَ الْإِجْزَاءِ كَوْنُ أَكْثَرِ النَّفَقَةِ مِنْ مَالِ الْآمِرِ، وَالْقِيَاسُ كَوْنُ الْكُلِّ مِنْ مَالِهِ إلَّا أَنَّ فِي الْتِزَامِ ذَلِكَ حَرَجًا بَيِّنًا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَسْتَصْحِبُ الْمَالَ لَيْلًا وَنَهَارًا فِي كُلِّ حَرَكَةٍ، وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَى شَرْبَةِ مَاءٍ وَكِسْرَةِ خُبْزٍ فِي بَغْتَةٍ فَأَسْقَطْنَا اعْتِبَارَ الْقَلِيلِ اسْتِحْسَانًا وَاعْتَبَرْنَا الْأَكْثَرَ إذْ لَهُ حُكْمُ الْكُلِّ، فَإِنْ أَنْفَقَ الْأَكْثَرَ أَوْ الْكُلَّ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَفِي الْمَالِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ وَفَاءٌ لِحَجِّهِ رَجَعَ بِهِ فِيهِ، إذْ قَدْ يُبْتَلَى بِالْإِنْفَاقِ فِي مَالِ نَفْسِهِ لِبَغْتَةِ الْحَاجَةِ وَلَا يَكُونُ الْمَالُ حَاضِرًا فَيَجُوزُ ذَلِكَ، كَالْوَصِيِّ وَالْوَكِيلِ يَشْتَرِي لِلْيَتِيمِ وَيُعْطِي الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَشْكُلُ مَا فِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ لَوْ قَالَ: أَحِجُّوا فُلَانًا حَجَّةً وَلَمْ يَقُلْ عَنِّي وَلَمْ يُسَمِّ، كَمْ يُعْطِي؟ قَالَ: يُعْطِي قَدْرَ مَا يَحُجُّ بِهِ، وَلَهُ أَنْ لَا يَحُجَّ بِهِ إذَا أَخَذَهُ وَيَصْرِفَهُ إلَى حَاجَةٍ أُخْرَى. قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ لِأَنَّهُ لَمَّا أُمِرَ بِذَلِكَ إنَّمَا جُعِلَ الْحَجُّ عِيَارٌ لِمَا أَوْصَى لَهُ بِهِ مِنْ الْمَالِ، ثُمَّ أَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ صَحِيحَةً وَمَشُورَتُهُ غَيْرُ مُلْزِمَةٍ، فَإِنْ شَاءَ حَجَّ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَحُجَّ.اهـ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنَّمَا أَوْصَى لَهُ بِمَالٍ يَبْلُغُ أَنْ يَحُجَّ بِهِ.
وَفِي غَرِيبِ الرِّوَايَةِ لِلسَّيِّدِ الْإِمَامِ بْنِ شُجَاعٍ: رَجُلٌ أَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ فَحَجَّ عَنْهُ ابْنُهُ لِيَرْجِعَ فِي التَّرِكَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ كَالدَّيْنِ إذَا قَضَاهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ. وَلَوْ حَجَّ عَلَى أَنْ لَا يَرْجِعَ لَا يَجُوزُ عَنْ الْمَيِّتِ، وَيَتَخَايَلُ خِلَافَهُ. فِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ قَالَ: إذَا أَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بَعْضُ وَرَثَتِهِ فَأَجَازَ سَائِرُ الْوَرَثَةِ وَهُمْ كِبَارٌ جَازَ، وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا أَوْ غُيَّبًا كِبَارًا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ هَذَا يُشْبِهُ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ بِالنَّفَقَةِ فَلَا تَجُوزُ إلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ اهـ. فَيُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى مَا إذَا أَمَرَهُ بَاقِي الْوَرَثَةِ بِذَلِكَ. وَالنَّفَقَةُ الْمَشْرُوطَةُ مَا تَكْفِيهِ لِذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ عَامِلٌ لِلْمَيِّتِ. وَلَوْ تَوَطَّنَ مَكَّةَ بَعْدَ الْفَرَاغِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بَطَلَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ تَوَطَّنَ حِينَئِذٍ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَامَ فَإِنَّهُ مُسَافِرٌ عَلَى حَالِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: إذَا أَقَامَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ فَهِيَ فِي مَالِ نَفْسِهِ لِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إلَى الثَّلَاثِ لِلِاسْتِرَاحَةِ لَا لِلْأَكْثَرِ قَالُوا: هَذَا فِي زَمَانِهِمْ، إذْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ مَتَى شَاءَ، أَمَّا فِي زَمَانِنَا فَلَا إلَّا مَعَ النَّاسِ، فَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ مَقَامُهُ بِمَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا لِانْتِظَارِ قَافِلَتِهِ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ إلَّا مَعَهُمْ فَلَمْ يَكُنْ مُتَوَطِّنًا لِحَاجَةِ نَفْسِهِ، فَإِنْ أَقَامَ بَعْدَ خُرُوجِهَا فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ نَفْسِهِ، فَإِنْ بَدَا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَرْجِعَ رَجَعَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ كَانَ اسْتَحَقَّ نَفَقَةَ الرُّجُوعِ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، فَهُوَ كَالنَّاشِزَةِ إذَا عَادَتْ إلَى الْمَنْزِلِ، وَالْمُضَارِبِ إذَا أَقَامَ فِي بَلْدَتِهِ أَوْ بَلْدَةٍ أُخْرَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِحَاجَةِ نَفْسِهِ لَمْ يُنْفِقْ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَإِنْ خَرَجَ مُسَافِرًا بَعْدَ ذَلِكَ عَادَتْ فِيهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا تَعُودُ نَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ فِي الرُّجُوعِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ لَا لِلْمَيِّتِ، لَكِنَّا قُلْنَا: إنَّ أَصْلَ سَفَرِهِ كَانَ لِلْمَيِّتِ فَمَا بَقِيَ ذَلِكَ السَّفَرُ بَقِيَتْ النَّفَقَةُ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ أَنَّهُ إنْ نَوَى الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا سَقَطَتْ، فَإِنْ عَادَ عَادَتْ، وَإِنْ تَوَطَّنَهَا سَوَاءٌ قَلَّ أَوْ كَثُرَ لَا تَعُودُ. وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ التَّوَطُّنَ غَيْرُ مُجَرَّدِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يَتَّخِذَهَا وَطَنًا، وَلَا يُحَدُّ فِي ذَلِكَ حَدًّا فَتَسْقُطُ النَّفَقَةُ. ثُمَّ الْعَوْدُ إنْشَاءُ سَفَرٍ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ وَلَوْ بَعْدَ يَوْمَيْنِ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ النَّفَقَةَ عَلَى الْمَيِّتِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَصَرَّحَ فِي الْبَدَائِعِ بَعْدَ نَقْلِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فَقَالَ: وَهَذَا إذَا لَمْ يَتَّخِذْ مَكَّةَ دَارًا فَأَمَّا إذَا اتَّخَذَهَا دَارًا ثُمَّ عَادَ لَا تَعُودُ النَّفَقَةُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ كَانَ أَقَامَ بِهَا أَيَّامًا مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ قَالُوا: إنْ كَانَتْ إقَامَةً مُعْتَادَةً لَمْ تَسْقُطْ، وَإِنْ زَادَ عَلَى الْمُعْتَادِ سَقَطَتْ، وَلَوْ تَعَجَّلَ إلَى مَكَّةَ فَهِيَ فِي مَالِ نَفْسِهِ إلَى أَنْ يَدْخُلَ عَشْرُ ذِي الْحَجَّةِ فَتَصِيرُ فِي مَالِ الْآمِرِ، وَلَوْ سَلَكَ طَرِيقًا أَبْعَدَ مِنْ الْمُعْتَادِ إنْ كَانَ مِمَّا يَسْلُكُهُ النَّاسُ فَفِي مَالِ الْآمِرِ وَإِلَّا فَفِي مَالِ نَفْسِهِ وَمَا دَامَ مَشْغُولًا بِالْعُمْرَةِ بَعْدَ الْحَجِّ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، فَإِذَا فَرَغَ عَادَتْ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، وَلَوْ كَانَ بَدَأَ بِالْعُمْرَةِ لِنَفْسِهِ ثُمَّ حَجَّ عَنْ الْمَيِّتِ قَالُوا: يَضْمَنُ جَمِيعَ النَّفَقَةِ لِأَنَّهُ خَالَفَ الْأَمْرَ، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: لَوْ ضَاعَتْ النَّفَقَةُ بِمَكَّةَ أَوْ بِقُرْبٍ مِنْهَا أَوْ لَمْ تَبْقَ: يَعْنِي فَنِيَتْ فَأَنْفَقَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي مَالِ الْمَيِّتِ وَإِنْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِالْحَجِّ فَقَدْ أَمَرَهُ بِأَنْ يُنْفِقَ عَنْهُ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ بِأَسْطُرٍ إذَا قُطِعَ الطَّرِيقُ عَلَى الْمَأْمُورِ وَقَدْ أَنْفَقَ بَعْضَ الْمَالِ فِي الطَّرِيقِ فَمَضَى وَحَجَّ وَأَنْفَقَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فَلَا يَسْقُطُ الْحَجُّ عَنْ الْمَيِّتِ لِأَنَّ سُقُوطَهُ بِطَرِيقِ التَّسَبُّبِ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ فِي كُلِّ الطَّرِيقِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ سِوَى أَنَّهُ قَيَّدَ الْأُولَى بِكَوْنِ ذَلِكَ الضَّيَاعِ بِمَكَّةَ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، لَكِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي عَلَّلَ بِهِ يُوجِبُ اتِّفَاقَ الصُّورَتَيْنِ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ الرُّجُوعُ، فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ وَتَبَرَّعَ بِهِ، إنْ كَانَ الْأَقَلَّ جَازَ وَإِلَّا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَالِهِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّفَقَةِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ طَعَامٍ وَمِنْهُ اللَّحْمُ وَشَرَابُهُ وَثِيَابُهُ وَرُكُوبُهُ وَثِيَابُ إحْرَامِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ أَحَدًا إلَى طَعَامِهِ وَلَا يَتَصَدَّقَ بِهِ وَلَا يُقْرِضَ أَحَدًا وَلَا يَصْرِفَ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ إلَّا لِحَاجَةٍ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ، وَلَا يَشْتَرِيَ مِنْهَا مَاءَ الْوُضُوءِ بَلْ يَتَيَمَّمَ وَلَا يَدْخُلَ الْحَمَّامَ.
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: لَهُ أَنْ يَدْخُلَهَا بِالْمُتَعَارَفِ: يَعْنِي مِنْ الزَّمَانِ، وَيُعْطِيَ أُجْرَةَ الْحَارِسِ مِنْ مَالِ الْآمِرِ، وَلَهُ أَنْ يَخْلِطَ دَرَاهِمَ النَّفَقَةِ مَعَ الرُّفْقَةِ وَيُودِعَ الْمَالَ. وَاخْتُلِفَ فِي شِرَاءِ دُهْنِ السِّرَاجِ وَالِادِّهَانِ، قِيلَ لَا، وَقِيلَ يَشْتَرِي دُهْنًا يَدَّهِنُ بِهِ لِإِحْرَامِهِ وَزَيْتًا لِلِاسْتِصْبَاحِ، وَلَا يَتَدَاوَى مِنْهُ وَلَا يَحْتَجِمُ وَلَا يُعْطِي أُجْرَةَ الْحَلَّاقِ إلَّا أَنْ يُوَسِّعَ عَلَيْهِ الْمَيِّتُ أَوْ الْوَارِثُ. وَقِيَاسُ مَا فِي الْفَتَاوَى أَنْ يُعْطِيَ أُجْرَةَ الْحَلَّاقِ وَلَا يُنْفِقَ عَلَى مَنْ يَخْدُمُهُ إلَّا إذَا كَانَ مِمَّنْ لَا يَخْدُمُ نَفْسَهُ، وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ دَابَّةً يَرْكَبَهَا وَمَحْمَلًا وَقِرْبَةً وَإِدَاوَةً وَسَائِرَ الْآلَاتِ وَمَهْمَا فَضَلَ مِنْ الزَّادِ وَالْأَمْتِعَةِ يَرُدُّهُ عَلَى الْوَرَثَةِ أَوْ الْوَصِيِّ إلَّا أَنْ يَتَبَرَّعَ بِهِ الْوَارِثُ أَوْ أَوْصَى لَهُ بِهِ الْمَيِّتُ، وَهَذَا لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَصِيرُ مِلْكًا لِلْحَاجِّ بِالْإِحْجَاجِ وَإِنَّمَا يُنْفِقُ فِي ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ، لِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَهُ لَكَانَ بِالِاسْتِئْجَارِ، وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الطَّاعَاتِ. وَعَنْ هَذَا قُلْنَا: لَوْ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ كَانَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بِنَفْسِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ وَارِثًا أَوْ دَفَعَهُ إلَى وَارِثٍ لِيَحُجَّ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يُجِيزَ الْوَرَثَةُ وَهُمْ كِبَارٌ، لِأَنَّ هَذَا كَالتَّبَرُّعِ بِالْمَالِ فَلَا يَصِحُّ لِلْوَارِثِ إلَّا بِإِجَازَةِ الْبَاقِينَ. وَلَوْ قَالَ الْمَيِّتُ لِلْوَصِيِّ: ادْفَعْ الْمَالَ لِمَنْ يَحُجَّ عَنِّي لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ مُطْلَقًا وَإِذَا عَلِمَ هَذَا فَمَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ مِنْ قولهِ: إذَا اسْتَأْجَرَ الْمَحْبُوسُ رَجُلًا لِيَحُجَّ عَنْهُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ جَازَتْ الْحَجَّةُ عَنْ الْمَحْبُوسِ إذَا مَاتَ فِي الْحَبْسِ وَلِلْأَجِيرِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ مُشْكِلٌ، لَا جَرَمَ أَنَّ الَّذِي فِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ أَبِي الْفَضْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ: وَلَهُ نَفَقَةُ مِثْلِهِ هِيَ الْعِبَارَةُ الْمُحَرَّرَةُ، وَزَادَ إيضَاحَهَا فِي الْمَبْسُوطِ فَقَالَ: وَهَذِهِ النَّفَقَةُ لَيْسَ يَسْتَحِقُّهَا بِطَرِيقِ الْعِوَضِ بَلْ بِطَرِيقِ الْكِفَايَةِ لِأَنَّهُ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِعَمَلٍ يَنْتَفِعُ الْمُسْتَأْجِرُ بِهِ، هَذَا وَإِنَّمَا جَازَ الْحَجُّ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَمَّا بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ بَقِيَ الْأَمْرُ بِالْحَجِّ فَيَكُونُ لَهُ نَفَقَةُ مِثْلِهِ. وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مَا فَضَلَ لِلْمَأْمُورِ مِنْ الثِّيَابِ وَالنَّفَقَةِ يَقول لَهُ: وَكَّلْتُك أَنْ تَهَبَ الْفَضْلَ مِنْ نَفْسِك وَتَقْبِضَهُ لِنَفْسِك، فَإِنْ كَانَ عَلَى مَوْتٍ قَالَ: وَالْبَاقِي مِنِّي لَك وَصِيَّةٌ.
وَفِي الْفَتَاوَى: لَوْ حَجَّ الْمَأْمُورُ بِالْحَجِّ مَاشِيًا وَأَمْسَكَ مَئُونَةَ الْكِرَاءِ كَانَ ضَامِنًا مَالَ الْمَيِّتِ وَالْحَجُّ لِنَفْسِهِ لِانْصِرَافِ الْأَمْرِ بِالْحَجِّ إلَى الْمُتَعَارَفِ وَهُوَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ. وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُعْطِيَ بَعِيرَهُ هَذَا إلَى رَجُلٍ يَحُجُّ عَنْهُ فَأَكْرَاهُ الرَّجُلُ وَأَنْفَقَ الْكِرَاءَ عَلَى نَفْسِهِ فِي الطَّرِيقِ وَحَجَّ مَاشِيًا جَازَ عَنْ الْمَيِّتِ اسْتِحْسَانًا هُوَ الْمُخْتَارُ لِأَنَّهُ مَلَكَ أَنْ يَبِيعَهُ وَيَحُجَّ بِثَمَنِهِ فَكَذَا يَمْلِكُ أَنْ يُؤَجِّرَهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ كَانَتْ الْأُجْرَةُ لَهُ وَلَا يَضْمَنُ كَالْغَاصِبِ، وَيَقَعُ الْحَجُّ عَنْ الْمَأْمُورِ فَيَتَضَرَّرُ الْمَيِّتُ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكَ الْإِجَارَةَ نَظَرًا لِلْمَيِّتِ ثُمَّ يُؤَدِّيَ الْبَعِيرَ إلَى الْوَرَثَةِ لِأَنَّهُ مِلْكُ مُوَرِّثِهِمْ. قَالَ أَبُو اللَّيْثِ فِي النَّوَازِلِ: وَعِنْدِي أَنَّ الْحَجَّ عَنْ نَفْسِهِ وَيَضْمَنُ نُقْصَانَ الْبَعِيرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ فَوَّضَ إلَيْهِ ذَلِكَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا وَكَّلَ رَجُلًا بِأَنْ يَبِيعَ بَعِيرَهُ بِمِائَةٍ فَآجَرَهُ بِمِائَةٍ لَا يَجُوزُ فَكَذَا هَذَا.اهـ. وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فُلَانٌ فَمَاتَ فُلَانٌ أَحَجُّوا عَنْهُ غَيْرَهُ. وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمَأْمُورُ وَالْوَارِثُ أَوْ الْوَصِيُّ فَقَالَ وَقَدْ أَنْفَقَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ مُنِعْت مِنْ الْحَجِّ وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ لَا يُصَدَّقُ وَيَضْمَنُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا ظَاهِرًا يَشْهَدُ عَلَى صِدْقِهِ لِأَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ قَدْ ظَهَرَ فَلَا يُصَدَّقُ فِي دَفْعِهِ إلَّا بِأَمْرٍ ظَاهِرٍ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ. وَلَوْ اخْتَلَفَا فَقَالَ حَجَجْت وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ كَانَ الْقول لِلْمَأْمُورِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ يَدَّعِيَ الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ مَا هُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْوَارِثِ أَوْ الْوَصِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْبَلَدِ إلَّا أَنْ يُقِيمَا عَلَى إقْرَارِهِ أَنَّهُ لَمْ يَحُجَّ. نَظِيرُهُ: قَالَ الْمُودِعُ دَفَعْتهَا إلَيْك بِمَكَّةَ وَأَقَامَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي ادَّعَى فِيهِ الدَّفْعَ بِمَكَّةَ بِالْكُوفَةِ لَمْ تَجُزْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَامَهَا عَلَى إقْرَارِهِ أَنَّهُ كَانَ بِالْكُوفَةِ. أَمَّا لَوْ كَانَ الْحَاجُّ مَدْيُونًا لِلْمَيِّتِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَحُجَّ بِمَالِهِ الَّذِي عَلَيْهِ وَبَاقِي الْمَسْأَلَةِ بِحَالِهَا فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّهُ يَدَّعِي قَضَاءَ الدَّيْنِ.
وَفِي خِزَانَةِ الْأَكْمَلِ: الْقول لَهُ مَعَ يَمِينِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْوَرَثَةِ مُطَالِبٌ بِدَيْنِ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي حَقِّ غَرِيمِ الْمَيِّتِ إلَّا بِالْحَجَّةِ.
وَفِي فَتَاوَى أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ: أَوْصَى رَجُلًا أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ وَلَمْ يُقَدَّرْ فِيهِ شَيْئًا وَالْوَصِيُّ إنْ أَعْطَى لِلْحَاجِّ فِي مَحْمَلٍ احْتَاجَ إلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ أَوْ رَاكِبًا لَا فِي مَحْمَلٍ يَكْفِيهِ الْأَقَلُّ وَالْأَكْثَرُ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ يَجِبُ الْأَقَلُّ لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ. وَلَوْ مَرِضَ الْحَاجُّ عَنْ غَيْرِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ إلَى غَيْرِهِ لِيَحُجَّ بِهِ، إلَّا إذَا قَالَ لَهُ الدَّافِعُ اصْنَعْ مَا شِئْت: فَهَذِهِ فَوَائِدُ مُهِمَّةٌ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهَا قَدَّمْنَاهَا أَمَامَ مَا فِي الْكِتَابِ تَتْمِيمًا أَوْ تَكْمِيلًا لِفَائِدَتِهِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ أَمَرَهُ رَجُلَانِ بِأَنْ يَحُجَّ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَجَّةً فَأَهَلَّ بِحَجَّةٍ عَنْهُمَا فَهِيَ عَنْ الْحَاجِّ وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ) لِأَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ حَتَّى لَا يَخْرُجَ الْحَاجُّ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَرَهُ أَنْ يُخْلِصَ الْحَجَّ لَهُ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاكٍ، وَلَا يُمْكِنُ إيقَاعُهُ عَنْ أَحَدِهِمَا لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ فَيَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَجَّ عَنْ أَبَوَيْهِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِجَعْلِ ثَوَابِ عَمَلِهِ لِأَحَدِهِمَا أَوْ لَهُمَا فَيَبْقَى عَلَى خِيَارِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ سَبَبًا لِثَوَابِهِ، وَهُنَا يَفْعَلُ بِحُكْمِ الْآمِرِ، وَقَدْ خَالَفَ أَمْرَهُمَا فَيَقَعُ عَنْهُ. وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ إنْ أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِمَا لِأَنَّهُ صَرَفَ نَفَقَةَ الْآمِرِ إلَى حَجِّ نَفْسِهِ، وَإِنْ أَبْهَمَ الْإِحْرَامَ بِأَنْ نَوَى عَنْ أَحَدِهِمَا غَيْرَ عَيْنٍ، فَإِنْ مَضَى عَلَى ذَلِكَ صَارَ مُخَالِفًا لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ، وَإِنْ عَيَّنَ أَحَدَهُمَا قَبْلَ الْمُضِيِّ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّعْيِينِ، وَالْإِبْهَامُ يُخَالِفُهُ فَيَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ حَجَّةً أَوْ عُمْرَةً حَيْثُ كَانَ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ مَا شَاءَ لِأَنَّ الْمُلْتَزَمَ هُنَاكَ مَجْهُولٌ وَهَاهُنَا الْمَجْهُولُ مَنْ لَهُ الْحَقُّ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِحْرَامَ شُرِعَ وَسِيلَةً إلَى الْأَفْعَالِ لَا مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ. وَالْمُبْهَمُ يَصْلُحُ وَسِيلَةً بِوَاسِطَةِ التَّعْيِينِ فَاكْتَفَى بِهِ شَرْطًا، بِخِلَافِ مَا إذَا أَدَّى الْأَفْعَالَ عَلَى الْإِبْهَامِ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى لَا يَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ فَصَارَ مُخَالِفًا.
الشَّرْحُ:
وَلْنَرْجِعْ إلَى الشَّرْحِ.
قولهُ: (وَمَنْ أَمَرَهُ رَجُلَانِ إلَخْ) صُوَرُ الْإِبْهَامِ هُنَا أَرْبَعَةٌ: أَنْ يُهِلَّ بِحَجَّةٍ عَنْهُمَا، أَوْ عَنْ أَحَدِهِمَا عَلَى الْإِبْهَامِ. أَوْ يُهِلَّ بِحَجَّةٍ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ، أَوْ يُحْرِمَ عَنْ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ بِلَا تَعْيِينٍ لِمَا أَحْرَمَ بِهِ. فَفِي الْأُولَى قَالَ هِيَ عَنْ الْحَاجِّ وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ.
وَفِي الثَّانِيَةِ قَالَ إنْ مَضَى عَلَى ذَلِكَ إلَخْ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي الْأَعْمَالِ فَالْأَمْرُ مَوْقُوفٌ لَمْ يَنْصَرِفْ الْإِحْرَامُ إلَى نَفْسِهِ وَلَا إلَى وَاحِدٍ مِنْ الْآمِرِينَ، فَإِنْ عَيَّنَ أَحَدَهُمَا قَبْلَ الْوُقُوفِ انْصَرَفَ إلَيْهِ وَإِلَّا انْصَرَفَ إلَى نَفْسِهِ وَضَمِنَ النَّفَقَةَ.
وَفِي الثَّالِثَةِ قَالَ فِي الْكَافِي: لَا نَصَّ فِيهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ التَّعْيِينُ هُنَا إجْمَاعًا لِعَدَمِ الْمُخَالَفَةِ.
وَفِي الرَّابِعَةِ يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ. وَمَبْنَى الْأَجْوِبَةِ عَلَى أَنَّهُ إذَا وَقَعَ عَنْ نَفْس الْمَأْمُورِ لَا يَتَحَوَّلُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الْآمِرِ، وَأَنَّهُ بَعْدَمَا صَرَفَ نَفَقَةَ الْآمِرِ إلَى نَفْسِهِ ذَاهِبًا إلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَخَذَ النَّفَقَةَ لَهُ لَا يَنْصَرِفُ الْإِحْرَامُ إلَى نَفْسِهِ إلَّا إذَا تَحَقَّقَتْ الْمُخَالَفَةُ أَوْ عَجَزَ شَرْعًا عَنْ التَّعْيِينِ. إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَلَا إشْكَالَ فِي تَحَقُّقِ الْمُخَالَفَةِ إذَا أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ وَاحِدَةٍ عَنْهُمَا وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ الْإِطْنَابِ. وَمَا يَتَخَايَلُ مَنْ جَعَلَ الْحَجَّةَ الْوَاحِدَةَ عَنْ أَبَوَيْهِ مُضْمَحِلٌّ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا كَانَ مَأْمُورًا بِفِعْلٍ بِحُكْمِ الْآمِرِ عَلَى وَزَّانِهِ لَا فِيمَا إذَا حَجَّ مُتَبَرِّعًا فَلَا يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ فِي تَرْكِهِ تَعْيِينِ أَحَدِهِمَا فِي الِابْتِدَاءِ فَيُحْتَمَلُ التَّعْيِينُ فِي الِانْتِهَاءِ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ جَعْلُ الثَّوَابِ وَنَقول: لَوْ أَمَرَهُ كُلٌّ مِنْ الْأَبَوَيْنِ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فَأَحْرَمَ بِهَا عَنْهُمَا كَانَ الْجَوَابُ كَالْجَوَابِ الْمَذْكُورِ فِي الْأَجْنَبِيَّيْنِ، فَلَا إشْكَالَ أَنَّ مُخَالَفَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا فِيمَا إذَا أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ عَنْ أَحَدِهِمَا لَمْ تَتَحَقَّقْ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَمَرَهُ بِحَجَّةٍ وَأَحَدُهُمَا صَالِحٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا صَادِقٌ عَلَيْهِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَصِيرَ لِلْمَأْمُورِ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى إخْرَاجِهَا عَنْ نَفْسِهِ بِجَعْلِهَا لِأَحَدِ الْآمِرَيْنِ فَلَا تَنْصَرِفُ إلَيْهِ إلَّا إذَا وَجَدَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا وَلَمْ يَتَحَقَّقْ بَعْدُ لِأَنَّ مَعَهُ مُكْنَةَ التَّعْيِينِ مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي الْأَعْمَالِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ حَتَّى شَرَعَ وَطَافَ وَلَوْ شَوْطًا لِأَنَّ الْأَعْمَالَ لَا تَقَعُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَتَقَعُ عَنْهُ ثُمَّ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ أَنْ يُحَوِّلَهَا إلَى غَيْرِهِ. وَإِنَّمَا جَعَلَ لَهُ الشَّرْعُ ذَلِكَ فِي الثَّوَابِ وَلَوْلَا السَّمْعُ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ فِي الثَّوَابِ أَيْضًا. وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ إحْرَامَهُ بِحَجَّةٍ بِلَا زِيَادَةٍ لَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةُ أَحَدٍ وَلَا تَعَذُّرُ التَّعْيِينِ وَلَا يَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ. وَأَمَّا الرَّابِعُ فَأَظْهَرُ مِنْ الْكُلِّ. وَلَوْ أَمَرَهُ رَجُلٌ بِحَجَّةٍ فَأَهَلَّ بِحَجَّتَيْنِ إحْدَاهُمَا عَنْ نَفْسِهِ وَالْأُخْرَى عَنْ الْآمِرِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِتَضَمُّنِ الْإِذْنِ بِالْحَجِّ مَعَ كَوْنِ نَفَقَةِ السَّفَرِ هِيَ الْمُحَقِّقَةُ لِلصِّحَّةِ إفْرَادَ السَّفَر لِلْآمِرِ، فَلَوْ رَفَضَ الَّتِي عَنْ نَفْسِهِ جَازَتْ الْبَاقِيَةُ عَنْ الْآمِرِ كَأَنَّهُ أَحْرَمَ بِهَا وَحْدَهَا ابْتِدَاءً، إذْ لَا إخْلَالَ فِي ذَلِكَ الْمَقْصُودِ بِالرَّفْضِ. وَالْحَاجُّ عَنْ غَيْرِهِ إنْ شَاءَ قَالَ لَبَّيْكَ عَنْ فُلَانٍ وَإِنْ شَاءَ اكْتَفَى بِالنِّيَّةِ عَنْهُ. وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ، وَسَنُقَرِّرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَيَجُوزُ إحْجَاجُ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَالْحُرَّةِ.
وَفِي الْأَصْلِ نَصَّ عَلَى كَرَاهَةِ الْمَرْأَةِ. فِي الْمَبْسُوطِ: فَإِنْ أَحَجَّ امْرَأَتَهُ جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِأَنَّ حَجَّ الْمَرْأَةِ أَنْقَصُ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا رَمَلٌ وَلَا سَعْيٌ فِي بَطْنِ الْوَادِي وَلَا رَفْعُ صَوْتِ التَّلْبِيَةِ وَلَا الْحَلْقُ.اهـ. وَالْأَفْضَلُ إحْجَاجُ الْحُرِّ الْعَالِمِ بِالْمَنَاسِكِ الَّذِي حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ. وَذَكَرَ فِي الْبَدَائِعِ كَرَاهَةَ إحْجَاجِ الصَّرُورَةِ لِأَنَّهُ تَارِكٌ فَرْضِ الْحَجِّ وَالْعَبْدُ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِأَدَاءِ الْفَرْضِ عَنْ نَفْسِهِ فَيُكْرَهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ لِلْمَأْمُورِ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِمَا أُمِرَ بِهِ عَنْ الْآمِرِ وَإِنْ مَرِضَ فِي الطَّرِيقِ إلَّا أَنْ يَكُونَ وَقْتَ الدَّفْعِ قِيلَ لَهُ اصْنَعْ مَا شِئْت فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِهِ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا، وَفِيهِ لَوْ أَحَجَّ رَجُلًا يَحُجُّ ثُمَّ يُقِيمُ بِمَكَّةَ جَازَ لِأَنَّ الْفَرْضَ صَارَ مُؤَدًّى، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَحُجَّ ثُمَّ يَعُودَ إلَيْهِ.
قولهُ: (بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ حَجَّةً أَوْ عُمْرَةً) هَذِهِ هِيَ الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ صُوَرِ الْإِبْهَامِ تَوَهَّمَهَا وَارِدَةً عَلَيْهِ فَدَفَعَ الْإِيرَادَ بِالْفَرْقِ لِأَنَّ الْمُلْتَزِمَ فِيهَا مَجْهُولٌ دُونَ الْمُلْتَزَمِ لَهُ وَمَا نَحْنُ فِيهِ قَلْبُهُ. وَجَهَالَةُ الْمُلْتَزِمِ لَا تَمْنَعُ لِمَا عُرِفَ فِي الْإِقْرَارِ بِمَجْهُولٍ لِمَعْلُومٍ حَيْثُ يَصِحُّ وَيَلْزَمُهُ الْبَيَانُ، بِخِلَافِهِ بِمَعْلُومٍ لِمَجْهُولٍ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَصْلًا.

متن الهداية:
قَالَ: (فَإِنْ أَمَرَهُ غَيْرُهُ أَنْ يَقْرُنَ عَنْهُ فَالدَّمُ عَلَى مَنْ أَحْرَمَ) لِأَنَّهُ وَجَبَ شُكْرًا لِمَا وَفَقَّهَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ وَالْمَأْمُورُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْفِعْلِ مِنْهُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْهَدُ بِصِحَّةِ الْمَرْوِيِّ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ أَمَرَهُ غَيْرُهُ أَنْ يَقْرُنَ عَنْهُ فَالدَّمُ عَلَى مَنْ أَحْرَمَ) وَهُوَ الْمَأْمُورُ لَا فِي مَالِ الْآمِرِ. وَقَرَنَ يَقْرُنُ مِنْ بَابِ نَصَرَ يَنْصُرُ (لِأَنَّهُ وَجَبَ شُكْرًا لِلْجَمْعِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ، وَالْمَأْمُورُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ قَالُوا: إنَّ هَذِهِ تَشْهَدُ بِصِحَّةِ الْمَرْوِيِّ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ) وَإِنَّمَا لِلْآمِرِ ثَوَابُ النَّفَقَةِ يَسْقُطُ بِهِ الْحَجُّ عَنْ الْآمِرِ شَرْعًا. وَقَدْ يُقَالُ: لَا تَلْزَمُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْأَفْعَالَ إنَّمَا وُجِدَتْ مِنْ الْمَأْمُورِ حَقِيقَةً غَيْرَ أَنَّهَا تَقَعُ عَنْ الْآمِرِ شَرْعًا. وَوُجُوبُ هَذَا الدَّمِ شُكْرًا مُسَبَّبٌ عَنْ الْوُجُودِ الْحَقِيقِيِّ، وَلِأَنَّ مُوجِبَ هَذَا الْفِعْلِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ مِنْ الْهَدْيِ وَالصَّوْمِ غَيْرَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَجِبُ عَلَى تَقْدِيرٍ، وَأَحَدُهُمَا بِتَقْدِيرِهِ يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُورِ وَهُوَ الصَّوْمُ فَكَذَا الْآخَرُ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا مُوجِبٌ وَاحِدٌ لِهَذَا الْعَمَلِ.

متن الهداية:
(وَكَذَلِكَ إنْ أَمَرَهُ وَاحِدٌ بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ وَالْآخَرُ بِأَنْ يَعْتَمِرَ عَنْهُ وَأَذِنَا لَهُ بِالْقِرَانِ) فَالدَّمُ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَكَذَا إذَا أَمَرَهُ وَاحِدٌ بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ وَالْآخَرُ أَنْ يَعْتَمِرَ عَنْهُ وَأَذِنَا لَهُ فِي الْقِرَانِ) يَعْنِي يَكُونُ الدَّمُ فِي مَالِهِ (لِمَا قُلْنَا) وَقَيَّدَ بِإِذْنِهِمَا لَهُ بِالْقِرَانِ لِأَنَّهُمَا لَوْ لَمْ يَأْذَنَا لَهُ فَقَرَنَ عَنْهَا كَانَ مُخَالِفًا فَيَضْمَنُ نَفَقَتَهُمَا، لَا لِأَنَّ إفْرَادَ كُلٍّ مِنْهُمَا أَفْضَلُ مِنْ قِرَانِهِمَا بَلْ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ أَمْرَ الْآمِرِ بِالنُّسُكِ يَتَضَمَّنُ إفْرَادَ السَّفَرِ لَهُ بِهِ لِمَكَانِ النَّفَقَةِ أَعْنِي تَضَمُّنَ الْأَمْرِ بِإِنْفَاقِ مَالِهِ فِي جَمِيعِ سَفَرِهِ وَيَسْتَلْزِمُ زِيَادَةَ الثَّوَابِ، وَفِي الْقِرَانِ عَدَمُ إفْرَادِ السَّفَرِ فَقَلَّتْ النَّفَقَةُ وَنَقَصَ الثَّوَابُ فَكَانَ مُخَالِفًا، هَذَا وَلَوْ كَانَ وَاحِدٌ أَمَرَهُ بِالْحَجِّ فَقَرَنَ عَنْهُ ضَمِنَ النَّفَقَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، لَهُمَا أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ، فَقَدْ فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ عَلَى وَجْهٍ أَحْسَنَ فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا، كَالْوَكِيلِ إذَا بَاعَ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَمَّى لَهُ الْمُوَكِّلُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ لِسَفَرٍ مُفْرَدٍ لِلْحَجِّ وَقَدْ خَالَفَ فَيَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ وَيَضْمَنُ كَمَا لَوْ تَمَتَّعَ، وَلَمْ يَنْدَفِعْ بَعْدَ هَذَا قولهُمَا أَنَّهُ خِلَافٌ إلَى خَيْرٍ فَكَانَ صَحِيحًا إذْ يَثْبُتُ الْإِذْنُ دَلَالَةً، بِخِلَافِ التَّمَتُّعِ فَإِنَّ السَّفَرَ وَقَعَ لِلْعُمْرَةِ بِالذَّاتِ، وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْحَجِّ تَضَمَّنَ السَّفَرُ لَهُ وُقُوعَ إحْرَامِهِ مِنْ مِيقَاتِ أَهْلِ الْآفَاقِ، وَالْمُتَمَتِّعُ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ. وَالْأَوْجَهُ مَا فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْعُمْرَةَ لَمْ تَقَعْ عَنْ الْآمِرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِهَا وَلَا وِلَايَةَ لِلْحَاجِّ فِي إيقَاعِ نُسُكٍ عَنْهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْمُرْ بِشَيْءٍ لَمْ يَجُزْ أَدَاؤُهُ عَنْهُ، فَكَذَا إذَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْعُمْرَةِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْعُمْرَةُ عَنْ الْمَيِّتِ صَارَتْ عَنْ نَفْسِهِ وَصَارَ كَأَنَّهُ نَوَاهَا عَنْ نَفْسِهِ ابْتِدَاءً، وَبِمِثْلِهِ امْتَنَعَ التَّمَتُّعُ لِعَدَمِ وُقُوعِ الْعُمْرَةِ عَنْ الْمَيِّتِ، وَمَا إذَا أَمَرَهُ بِعُمْرَةٍ فَقَرَنَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْبَدَائِعِ أَنَّهُ يَضْمَنُ أَيْضًا عِنْدَهُ كَالْحَجِّ إذَا قَرَنَ عِنْدَهُ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِالْحَجِّ فَقَرَنَ مَعَهُ عُمْرَةً لِنَفْسِهِ لَا يَجُوزُ وَيَضْمَنُ اتِّفَاقًا فَكَذَا هَذَا. قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ وَإِنْ نَوَى الْعُمْرَةَ عَنْ نَفْسِهِ لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا، وَلَكِنْ يَرُدُّ مِنْ النَّفَقَةِ بِقَدْرِ حِصَّةِ الْعُمْرَةِ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَحْصِيلِ الْحَجِّ عَنْهُ بِجَمِيعِ النَّفَقَةِ، فَإِذَا ضَمَّ إلَيْهِ عُمْرَةً لِنَفْسِهِ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ بِبَعْضِ النَّفَقَةِ وَهُوَ خِلَافٌ إلَى خَيْرٍ كَالْوَكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِأَلْفٍ إذَا اشْتَرَاهُ بِخَمْسِمِائَةٍ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَجْرِيدِ السَّفَرِ لِلْمَيِّتِ ثَمَّ، وَيَحْصُلُ لِلْمَيِّتِ ثَوَابُ النَّفَقَةِ فَبِتَنْقِيصِهَا يَنْقُصُ الثَّوَابُ بِقَدْرِهِ، فَكَانَ هَذَا الْخِلَافُ ضَرَرًا عَلَيْهِ، وَلَا إشْكَالَ أَنَّهُ إذَا بَدَأَ بِعُمْرَةٍ لِنَفْسِهِ يَضْمَنُ لِلْمُخَالَفَةِ وَلَا تَقَعُ الْحَجَّةُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهَا أَقَلُّ مَا يَقَعُ بِإِطْلَاقِ النِّيَّةِ وَهُوَ قَدْ صَرَفَهَا عَنْهُ فِي النِّيَّةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَلَوْ حَجَّ عَنْ الْمَيِّتِ ثُمَّ اعْتَمَرَ لِنَفْسِهِ بَعْدَ الْحَجِّ، فَعِنْدَ الْعَامَّةِ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِعُمْرَةٍ فَقَرَنَ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ، إلَّا أَنَّ عَلَى قولهِمَا بَقِيَّةَ مَا بَقِيَ مِنْ الْحَجِّ بَعْدَ أَدَاءِ الْعُمْرَةِ تَكُونُ نَفَقَتُهُ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ. وَلَوْ اعْتَمَرَ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَهُوَ أَدَاءُ الْعُمْرَةِ بِالسَّفَرِ، وَإِنَّمَا فَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ الْحَجَّ فَاشْتِغَالُهُ بِهِ كَاشْتِغَالِهِ بِعَمَلٍ آخَرَ مِنْ التِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا وَنَفَقَتُهُ مِقْدَارُ مَقَامِهِ لِلْحَجِّ مِنْ مَالِهِ. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ: إذَا حَجَّ الْمَأْمُورُ بِالْحَجِّ عَنْ الْمَيِّتِ فَطَافَ لِحَجَّةٍ وَسَعَى ثُمَّ أَضَافَ عُمْرَةً عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِأَنَّ هَذِهِ الْعُمْرَةَ وَاجِبَةُ الرَّفْضِ فَكَانَتْ كَعَدَمِهَا، وَلَوْ كَانَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا: أَيْ قَرَنَ ثُمَّ لَمْ يَطُفْ حَتَّى وَقَفَ بِعَرَفَةَ وَرَفَضَ الْعُمْرَةَ لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُخَالِفٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَحْرَمَ بِهِمَا جَمِيعًا فَقَدْ صَارَ مُخَالِفًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَوَقَعَتْ الْحَجَّةُ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا تَحْتَمِلُ النَّفَلَ بَعْدَ ذَلِكَ بِرَفْضِ الْعُمْرَةِ.

متن الهداية:
(وَدَمُ الْإِحْصَارِ عَلَى الْآمِرِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عَلَى الْحَاجِّ) لِأَنَّهُ وَجَبَ لِلتَّحَلُّلِ دَفْعًا لِضَرَرِ امْتِدَادِ الْإِحْرَامِ، وَهَذَا رَاجِعٌ إلَيْهِ فَيَكُونُ الدَّمُ عَلَيْهِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْآمِرَ هُوَ الَّذِي أَدْخَلَهُ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ (فَإِنْ كَانَ يَحُجُّ عَنْ مَيِّتٍ فَأُحْصِرَ فَالدَّمُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ) عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ قِيلَ: هُوَ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ صِلَةٌ كَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا. وَقِيلَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّهُ وَجَبَ حَقًّا لِلْمَأْمُورِ فَصَارَ دَيْنًا (وَدَمُ الْجِمَاعِ عَلَى الْحَاجِّ) لِأَنَّهُ دَمُ جِنَايَةٍ وَهُوَ الْجَانِي عَنْ اخْتِيَارٍ (وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ) مَعْنَاهُ: إذَا جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ حَتَّى فَسَدَ حَجُّهُ لِأَنَّ الصَّحِيحَ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا فَاتَهُ الْحَجُّ حَيْثُ لَا يَضْمَنُ النَّفَقَةَ لِأَنَّهُ مَا فَاتَهُ بِاخْتِيَارِهِ. أَمَّا إذَا جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ لَا يَفْسُدُ حَجُّهُ وَلَا يَضْمَنُ النَّفَقَةَ لِحُصُولِ مَقْصُودِ الْأَمْرِ. وَعَلَيْهِ الدَّمُ فِي مَالِهِ لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ عَلَى الْحَاجِّ لِمَا قُلْنَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَدَمُ الْإِحْصَارِ إلَخْ) الدِّمَاءُ الْوَاجِبَةُ فِي الْحَجِّ إمَّا دَمُ الْإِحْصَارِ وَهُوَ عَلَى الْآمِرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَى الْمَأْمُورِ، فَإِنْ كَانَ الْمَحْجُوجُ عَنْهُ مَيِّتًا فَفِي مَالِهِ عِنْدَهُمَا. ثُمَّ هَلْ هُوَ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ مِنْ كُلِّ الْمَالِ؟ خِلَافٌ بَيْنَ الْمَشَايِخِ وَتَقْرِيرُ الْوَجْهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ فَلَا نُطِيلُ بِهِ، ثُمَّ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ بِمَالِ نَفْسِهِ وَإِمَّا دَمُ الْقِرَانِ وَقَدْ تَقَدَّمَ، قَالُوا: هَذَا وَدَمُ الْقِرَانِ يَشْهَدَانِ لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي دَمِ الْقِرَانِ. وَأَمَّا كَوْنُ حَجِّ الْقَضَاءِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَلِأَنَّهُ لَمْ يُتِمَّ الْأَفْعَالَ بِسَبَبِ الْإِحْصَارِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ مَا هُوَ مُسَمَّى الْحَجِّ عَنْهُ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ. وَإِمَّا دَمُ الْجِنَايَةِ كَجَزَاءِ صَيْدٍ وَطِيبٍ وَشَعْرٍ وَجِمَاعٍ فَفِي مَالِ الْحَاجِّ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ هُوَ الْجَانِي عَنْ اخْتِيَارٍ، وَالْأَمْرُ بِالْحَجِّ لَا يَنْتَظِمُ الْجِنَايَةَ بَلْ يَنْتَظِمُ ظَاهِرًا عَدَمَهَا فَيَكُونُ مُخَالِفًا فِي فِعْلِهَا فَيَثْبُتُ مُوجِبُهَا فِي مَالِهِ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْجِمَاعُ قَبْلَ الْوُقُوفِ حَتَّى فَسَدَ الْحَاجُّ ضَمِنَ النَّفَقَةَ لِلْمُخَالَفَةِ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ لَا يَشْكُلُ كَوْنُهُ فِي مَالِ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ لَا يَفْسُدُ وَلَا يَضْمَنُ النَّفَقَةَ، وَلَوْ فَاتَهُ الْحَجُّ لَا يَضْمَنُ النَّفَقَةَ لِعَدَمِ الْمُخَالَفَةِ فَهُوَ كَالْمُحْصَرِ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ بِمَالِ نَفْسِهِ. وَلَوْ أَتَمَّ الْحَجَّ إلَّا طَوَافَ الزِّيَارَةِ فَرَجَعَ وَلَمْ يَطُفْهُ لَا يَضْمَنُ النَّفَقَةَ، غَيْرَ أَنَّهُ حَرَامٌ عَلَى النِّسَاءِ وَيَعُودُ بِنَفَقَةِ نَفْسِهِ لِيَقْضِيَ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ جَانٍ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، أَمَّا لَوْ مَاتَ بَعْدَ الْوُقُوفِ قَبْلَ الطَّوَافِ جَازَ عَنْ الْآمِرِ لِأَنَّهُ أَدَّى الرُّكْنَ الْأَعْظَمَ، وَإِمَّا دَمُ رَفْضِ النُّسُكِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا تَحَقَّقَ إلَّا فِي مَالِ الْحَاجِّ، وَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ لَوْ فَرَضَ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُحْرِمَ بِحَجَّتَيْنِ مَعًا فَفَعَلَ حَتَّى ارْتُفِضَتْ إحْدَاهُمَا كَوْنُهُ عَلَى الْآمِرِ وَلَمْ أَرَهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

متن الهداية:
(وَمَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ فَأَحَجُّوا عَنْهُ رَجُلًا فَلَمَّا بَلَغَ الْكُوفَةَ مَاتَ أَوْ سُرِقَتْ نَفَقَتُهُ وَقَدْ أَنْفَقَ النِّصْفَ يَحُجُّ عَنْ الْمَيِّتِ مِنْ مَنْزِلِهِ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ (وَقَالَا: يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ مَاتَ الْأَوَّلُ) فَالْكَلَامُ هَاهُنَا فِي اعْتِبَارِ الثُّلُثِ وَفِي مَكَانِ الْحَجِّ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمَذْكُورُ قول أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحُجُّ عَنْهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ إنْ بَقِيَ شَيْءٌ وَإِلَّا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ اعْتِبَارًا بِتَعْيِينِ الْمُوصِي إذْ تَعْيِينُ الْوَصِيِّ كَتَعْيِينِهِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحُجُّ عَنْهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَحَلُّ لِنَفَاذِ الْوَصِيَّةِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ قِسْمَةَ الْوَصِيِّ وَعَزْلَهُ الْمَالَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَمَّاهُ الْمُوصِي لِأَنَّهُ لَا خَصْمَ لَهُ لِيَقْبِضَ وَلَمْ يُوجَدْ التَّسْلِيمُ إلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ فَصَارَ كَمَا إذَا هَلَكَ قَبْلَ الْإِفْرَازِ وَالْعَزْلِ فَيَحُجُّ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ. وَأَمَّا الثَّانِي فَوَجْهُ قول أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ أَنَّ الْقَدْرَ الْمَوْجُودَ مِنْ السَّفَرِ قَدْ بَطَلَ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ» الْحَدِيثَ، وَتَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَبَقِيَتْ الْوَصِيَّةُ مِنْ وَطَنِهِ كَأَنْ لَمْ يُوجَدْ الْخُرُوجُ. وَجْهُ قولهِمَا وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ أَنَّ سَفَرَهُ لَمْ يَبْطُلْ لِقولهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الْآيَةَ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ مَاتَ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ كُتِبَ لَهُ حَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ» وَإِذَا لَمْ يَبْطُلْ سَفَرُهُ اُعْتُبِرَتْ الْوَصِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَأَصْلُ الِاخْتِلَافِ فِي الَّذِي يَحُجُّ بِنَفْسِهِ، وَيَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ الْمَأْمُورُ بِالْحَجِّ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ إلَخْ) لَا خِلَافَ أَنَّ إطْلَاقَ الْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ إذَا كَانَ الثُّلُثَ يَحْتَمِلُ الْإِحْجَاجَ مِنْ بَلَدِهِ رَاكِبًا وَلَمْ يَكُنْ الْمُوصِي حَاجًّا عَنْ نَفْسِهِ مَاتَ فِي الطَّرِيقِ وَلَمْ يُعَيِّنْ الْمَكَانَ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، أَوْ مَكَانًا آخَرَ يُوجِبُ تَعْيِينَ الْبَلَدِ وَالرُّكُوبِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي مُقَدِّمَةِ الْبَابِ أَنَّهُ لَوْ حَجَّ الْمَأْمُورُ مَاشِيًا وَأَمْسَكَ مَئُونَةَ الْكِرَاءِ لِنَفْسِهِ يَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ وَيَضْمَنُ النَّفَقَةَ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الثُّلُثُ لَا يَبْلُغُ إلَّا مَاشِيًا فَقَالَ رَجُلٌ أَنَا أَحُجُّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ مَاشِيًا جَازَ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَا يَجْزِيهِ وَيَحُجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ رَاكِبًا. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ أَحَجُّوا عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ مَاشِيًا جَازَ، وَمِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ رَاكِبًا جَازَ، لِأَنَّ فِي كُلٍّ نَقْصًا مِنْ وَجْهِ زِيَادَةً مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَاعْتَدَلَا؛ وَلَوْ أَحَجُّوا مِنْ مَوْضِعٍ يَبْلُغُ وَفَضَلَ مِنْ الثُّلُثِ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ يَبْلُغُ رَاكِبًا مِنْ مَوْضِعٍ أَبْعَدَ يَضْمَنُ الْوَصِيُّ وَيَحُجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ إلَّا إذَا كَانَ الْفَاضِلُ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ زَادٍ وَكِسْوَةٍ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا كَذَا فِي الْبَدَائِعِ. هَذَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ كَمِّيَّةً، فَإِنْ عَيَّنَ بِأَنْ قَالَ أَحِجُّوا عَنِّي بِأَلْفٍ أَوْ بِثُلُثِ مَالِي، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْ بَلَدِهِ جَاءَ مَا قُلْنَاهُ وَإِنْ بَلَغَ وَاحِدَةً لَزِمَتْ وَإِنْ بَلَغَ حِجَجًا كَثِيرَةً. فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْأَلْفِ فَذَكَرَهَا فِي الْمَبْسُوطِ قَالَ: الْوَصِيُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَ عَنْهُ كُلَّ سَنَةٍ حَجَّةً وَإِنْ شَاءَ أَحَجَّ عَنْهُ رِجَالًا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ أَفْضَلُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْحَجِّ بِمَالٍ مُقَدَّرٍ كَالْوَصِيَّةِ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ، وَفِي ذَلِكَ الْوَصِيُّ بِالْخِيَارِ بَيْنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالتَّعْجِيلُ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ بَعُدَ مِنْ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ بِهَلَاكِ الْمَالِ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الثُّلُثِ فَذَكَرَهَا فِي الْبَدَائِعِ، وَذَكَرَ الْجَوَابَ عَلَى نَحْوِ مَسْأَلَةِ الْأَلْفِ نَقْلًا عَنْ الْقُدُورِيِّ، إلَّا أَنَّهُ حَكَى فِيهَا خِلَافًا؛ فَقِيلَ: إنَّ الْقَاضِيَ: يَعْنِي الْإِسْبِيجَابِيَّ قَدْ ذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ حَجَّةً وَاحِدَةً مِنْ وَطَنِهِ وَهِيَ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، إلَّا إذَا قَالَ بِجَمِيعِ الثُّلُثِ. قَالَ: وَمَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ أَثْبَتُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِجَمِيعِ الثُّلُثِ وَبِالثُّلُثِ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِجَمِيعِ السَّهْمِ، وَذَكَرَهَا فِي الْمَبْسُوطِ أَيْضًا وَأَجَابَ بِصَرْفِهِ إلَى الْحَجِّ إذَا لَمْ يَقُلْ حَجَّةً، وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا، قَالَ: لِأَنَّهُ جَعَلَ الثُّلُثَ مَصْرُوفًا إلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْقُرْبَةِ فَيَجِبُ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ فِي جَمِيعِ الثُّلُثِ، كَمَا لَوْ أَوْصَى أَنْ يَفْعَلَ بِثُلُثِهِ طَاعَةً أُخْرَى، وَلَوْ ضَمَّ إلَى الْحَجِّ غَيْرَهُ وَالثُّلُثُ يَضِيقُ عَنْ الْجَمِيعِ، إنْ كَانَتْ مُتَسَاوِيَةً بُدِئَ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْمُوصِي كَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ لِأَنَّ فِيهَا حَقَّيْنِ. وَالْحَجُّ وَالزَّكَاةُ يُقَدَّمَانِ عَلَى الْكَفَّارَاتِ، وَالْكَفَّارَاتُ عَلَى صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَهِيَ عَلَى النَّذْرِ، وَهُوَ وَالْكَفَّارَاتُ عَلَى الْأُضْحِيَّةَ، وَالْوَاجِبُ عَلَى النَّفْلِ، وَالنَّوَافِلُ يُقَدَّمُ مِنْهَا مَا بَدَأَ بِهِ الْمَيِّتُ. وَحُكْمُ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ إذَا لَمْ يُعَيِّنْ عَنْ كَفَّارَةٍ حُكْمُ النَّفْلِ وَالْوَصِيَّةُ لِآدَمِيٍّ كَالْفَرَائِضِ: أَعْنِي الْمُعَيَّنَ. فَإِنْ قَالَ لِلْمَسَاكِينِ فَهُوَ كَالنَّفْلِ. وَمِنْ الصُّوَرِ الْمَنْقولةِ أَوْصَى بِحَجَّةِ الْفَرْضِ وَعِتْقِ نَسَمَةٍ وَلَا يَسَعُهُمَا الثُّلُثُ يَبْدَأُ بِالْحَجَّةِ، وَلَوْ أَوْصَى بِالْحَجَّةِ وَلِأُنَاسٍ وَلَا يَسَعُهُمَا الثُّلُثُ قَسَمَ الثُّلُثَ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ يَضْرِبُ لِلْحَجِّ بِأَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْ نَفَقَةِ الْحَجِّ ثُمَّ مَا خَصَّ الْحَجَّ يَحُجُّ بِهِ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُمْكِنُ، وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِأَلْفٍ وَلِلْمَسَاكِينِ بِأَلْفٍ وَأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بِأَلْفٍ وَثُلُثُهُ أَلْفَانِ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى حِصَّةِ الْمَسَاكِينِ فَيُضَافُ إلَى الْحَجَّةِ فَمَا فَضَلَ فَهُوَ لِلْمَسَاكِينِ بَعْدَ تَكْمِيلِ الْحَجِّ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَطَوُّعٌ وَالْحَجَّ فَرْضٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ زَكَاةً فَيَتَحَاصَصُونَ فِي الثُّلُثِ ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ فَيَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْمَيِّتُ، وَلَوْ أَوْصَى بِكَفَّارَةِ إفْسَادِ رَمَضَانَ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ الْعِتْقُ وَلَمْ تَجُزْ الْوَرَثَةُ يُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا. هَذَا وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إلَى تَعْيِينِ الْوَطَنِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَطَنٌ وَاحِدٌ أَوْ أَوْطَانٌ، فَإِنْ اتَّحَدَ تَعَيَّنَ. وَمِنْ فُرُوعِهِ مَا عَنْ مُحَمَّدٍ فِي خُرَاسَانِيٍّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ بِمَكَّةَ فَأَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ خُرَاسَانَ، وَمَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي مَكِّيٍّ قَدِمَ إلَى الرَّيِّ فَحَضَرَهُ الْمَوْتُ فَأَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ مَكَّةَ. أَمَّا لَوْ أَوْصَى أَنْ يَقْرُنَ عَنْهُ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَقْرُنُ عَنْهُ مِنْ الرَّيِّ لِأَنَّهُ لَا قِرَانَ لِأَهْلِ مَكَّةَ فَيَحْمِلُ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ أَوْطَانٌ فِي بُلْدَانٍ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ أَقْرَبِهَا إلَى مَكَّةَ، وَلَوْ عَيَّنَ مَكَانًا جَازَ مِنْهُ اتِّفَاقًا، وَكَذَا إذَا عَيَّنَ مَكَانًا مَاتَ فِيهِ، فَلَوْ لَمْ يُعَيِّنْ مَكَانَ مَوْتِهِ وَقَدْ مَاتَ فِي سَفَرٍ، إنْ كَانَ سَفَرَ الْحَجِّ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ بِقولهِ: وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي الَّذِي يَحُجُّ عَنْ نَفْسِهِ: يَعْنِي إذَا مَاتَ فِي الطَّرِيقِ وَأَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ وَأَطْلَقَ يَلْزَمُ الْحَجَّ مِنْ بَلَدِهِ عِنْدَهُ إلَّا إنْ عَجَزَ الثُّلُثَ، وَعِنْدَهُمَا مِنْ حَيْثُ مَاتَ. وَلَوْ كَانَ سَفَرَ تِجَارَةٍ حَجَّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ اتِّفَاقًا لِأَنَّ تَعَيُّنَ مَكَانِ مَوْتِهِ فِي سَفَرِ الْحَجِّ عِنْدَهُمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ عِبَادَةُ سَفَرِهِ مِنْ بَلَدِهِ إلَى مَحَلِّ مَوْتِهِ، فَبِالسَّفَرِ مِنْهُ يَتَحَقَّقُ سَفَرُ الْحَجِّ مِنْ بَلَدِهِ، وَلَا عِبَادَةَ فِي سَفَرِ التِّجَارَةِ لِيَعْتَبِرَ الْبَعْضَ الَّذِي قَطَعَ عِبَادَةً مَعَ الْبَعْضِ الَّذِي بَقِيَ فَيَجِبُ إنْشَاءُ السَّفَرِ مِنْ الْبَلَدِ تَحْصِيلًا لِلْوَاجِبِ. فَإِنَّ الْخِطَابَ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي بَلَدِهِ بِالْخُرُوجِ إلَى الْحَجِّ وَهُوَ الْعَادَةُ أَيْضًا أَنْ يَخْرُجَ الْإِنْسَانُ مِنْ بَلَدِهِ مُجَهَّزًا فَيَنْصَرِفَ الْمُطْلَقُ إلَيْهِ وَلِهَذَا وَافَقَا أَبَا حَنِيفَةَ فِي الْحَاجِّ الَّذِي مَاتَ فِي الطَّرِيقِ فِيمَا لَوْ أَقَامَ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ فِي طَرِيقِهِ حَتَّى تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ ثُمَّ مَاتَ فَأَوْصَى مُطْلَقًا أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ السَّفَرَ لَمَّا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْحَجَّةُ الَّتِي خَرَجَ لَهَا فِي تِلْكَ السَّنَةِ لَمْ يَعْتَدَّ بِهِ عَنْ الْحَجِّ إذَا حَصَلْنَا عَلَى هَذَا، فَلَوْ أَوْصَى عَلَى وَجْهٍ انْصَرَفَتْ إلَى بَلَدِهِ وَلَمْ يُعَيِّنْ مَالًا فَفَعَلَ الْوَاجِبَ فَأَحَجُّوا مِنْهَا وَمَاتَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ وَقَدْ أَنْفَقَ بَعْضَهَا أَوْ سُرِقَتْ كُلُّهَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَحُجُّ عَنْهُ ثَانِيًا مِنْ بَلَدِهِ مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ. وَقَالَا: مِنْ حَيْثُ مَاتَ. وَأَمَّا فِي جَانِبِ الْمَالِ فَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَنْظُرُ إنْ بَقِيَ مِنْ الْمَدْفُوعِ شَيْءٌ حَجَّ بِهِ وَإِلَّا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ. إنْ كَانَ الْمَدْفُوعُ تَمَامَ الثُّلُثِ كَقول مُحَمَّدٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْضَهُ يُكَمَّلُ، فَإِنْ بَلَغَ بَاقِيهِ مَا يَحُجُّ بِهِ وَإِلَّا بَطَلَتْ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ ثُمَّ وَثُمَّ إلَى أَنْ لَا يَبْقَى مَا يَبْلُغُ فَحِينَئِذٍ تَبْطُلُ، مَثَلًا: كَانَ الْمُخَلَّفُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ دَفَعَ الْوَصِيُّ أَلْفًا فَهَلَكَتْ يَدْفَعُ إلَيْهِ مَا يَكْفِيهِ مِنْ ثُلُثِ الْبَاقِي أَوْ كُلِّهِ وَهُوَ أَلْفٌ، فَلَوْ هَلَكَتْ الثَّانِيَةُ دَفَعَ إلَيْهِ مِنْ ثُلُثِ الْبَاقِي بَعْدَهَا هَكَذَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ إلَّا أَنْ لَا يَبْقَى مَا ثُلُثُهُ يَبْلُغُ الْحَجَّ فَتَبْطُلُ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: يَأْخُذُ ثَلَاثِمِائَةٍ وَثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ وَثُلُثًا فَإِنَّهَا مَعَ تِلْكَ الْأَلْفِ ثُلُثُ الْأَرْبَعَةِ الْآلَافِ، فَإِنْ كَفَتْ وَإِلَّا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: إنْ فَضَلَ مِنْ الْأَلْفِ الْأُولَى مَا يَبْلُغُ وَإِلَّا بَطَلَتْ.
فَالْخِلَافُ فِي مَوْضِعَيْنِ فِيمَا يَدْفَعُ ثَانِيًا وَفِي الْمَحَلِّ الَّذِي يَجِبُ الْإِحْجَاجُ مِنْهُ ثَانِيًا. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ تَعْيِينَ الْوَصِيِّ كَتَعْيِينِ الْمُوصِي، وَلَوْ عَيَّنَ الْمُوصِي مَالًا فَهَلَكَتْ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ، فَكَذَا إذَا عَيَّنَ الْوَصِيُّ. وَأَبُو يُوسُفَ يَقول: مَحَلُّ الْوَصِيَّةِ الثُّلُثُ فَتَعْيِينُ الْوَصِيِّ إيَّاهُ صَحِيحٌ وَتَعْيِينُهُ فِيهِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ جَمِيعَ الثُّلُثِ مَحَلُّ الْوَصِيَّةِ، فَمَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْهُ يَجِبُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ فِيهِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقول: الْمَالُ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ لِلْمُوصِي بَلْ مَقْصُودُهُ الْحَجُّ بِهِ. فَإِذَا لَمْ يُفِدْ هَذَا التَّعْيِينُ هَذَا الْمَقْصُودَ صَارَ كَعَدَمِهِ، وَمَا هَلَكَ مِنْ الْمَالِ كَانَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا هَلَكَ قَبْلَ هَذَا الْإِفْرَازِ وَالْوَصِيَّةُ بَاقِيَةٌ بَعْدُ بِالْإِحْجَاجِ مُطْلَقًا فَيَنْصَرِفُ إلَى ثُلُثِ الْبَاقِي إذَا صَارَ الْهَالِكُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ فَيَكُونُ مَحَلُّهَا ثُلُثَهُ. وَأَمَّا الثَّانِي فَمَبْنَاهُ عَلَى أَنَّ السَّفَرَ هَلْ بَطَلَ بِالْمَوْتِ أَوْ لَا فَقَالَا لَا وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ، وَقَالَ نَعَمْ وَهُوَ قِيَاسٌ، وَقولهُ فِي الْأَوَّلِ أَوْجَهُ وَهُمَا هُنَا أَوْجَهُ. لَهُ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ. صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ. وَلَهُمَا فِي أَنَّهُ لَمْ يَبْطُلْ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ خَرَجَ حَاجًّا فَمَاتَ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْحَاجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ خَرَجَ مُعْتَمِرًا فَمَاتَ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْمُعْتَمِرِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ خَرَجَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمَاتَ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْغَازِي إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ. رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَبَقِيَّةُ رُوَاتِهِ ثِقَاتٌ. وَأَنْتَ قَدْ أَسْمَعْنَاك أَنَّ الْحَقَّ فِي ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ ثِقَةٌ أَيْضًا. ثُمَّ مَا رَوَاهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى انْقِطَاعِ الْعَمَلِ وَالْكَلَامُ فِي بُطْلَانِ الْقَدْرِ الَّذِي وُجِدَ فِي حُكْمِ الْعِبَادَةِ وَالثَّوَابِ وَهُوَ غَيْرُهُ وَغَيْرُ لَازِمِهِ، لِأَنَّ انْقِطَاعَ الْعَمَلِ لِفَقْدِ الْعَامِلِ لَا يَسْتَلْزِمُ مَا كَانَ قَدْ وُجِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ} فِيمَا كَانَ مُعْتَدًّا بِهِ حِينَ وُجِدَ ثُمَّ طَرَأَ الْمَنْعُ مِنْهُ. وَجَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُرَادَ بِعَدَمِ الِانْقِطَاعِ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَالِانْقِطَاعِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَهُوَ الَّذِي يُوجِبُهُ هُنَا كَمَنْ صَامَ إلَى نِصْفِ النَّهَارِ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ حَضَرَهُ الْمَوْتُ يَجِبُ أَنْ يُوصِيَ بِفِدْيَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَإِنْ كَانَ ثَوَابُ إمْسَاكِ ذَلِكَ الْيَوْم بَاقِيًا.
فَرْعٌ:
مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ وَأَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِثَلَاثِمِائَةٍ وَتَرَكَ تِسْعَمِائَةٍ فَأَنْكَرَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ وَاعْتَرَفَ الْآخَرُ فَدَفَعَ مِنْ حِصَّتِهِ مِائَةً وَخَمْسِينَ لِمَنْ يَحُجُّ بِهَا ثُمَّ اعْتَرَفَ الْآخَرُ، فَإِنْ كَانَ حَجَّ بِأَمْرِ الْوَصِيِّ يَأْخُذُ الْمُقِرُّ مِنْ الْجَاحِدِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ لِأَنَّهُ جَازَ عَنْ الْمَيِّتِ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ وَبَقِيَتْ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ مِيرَاثًا بَيْنَهُمَا، وَإِنْ حَجَّ بِغَيْرِ أَمْرِ الْوَصِيِّ يَحُجُّ مَرَّةً أُخْرَى بِثَلَاثِمِائَةٍ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ عَنْ أَبَوَيْهِ يَجْزِيهِ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا) لِأَنَّ مَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِنَّمَا يَجْعَلُ ثَوَابَ حَجِّهِ لَهُ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَدَاءِ الْحَجِّ فَلَغَتْ نِيَّتُهُ قَبْلَ أَدَائِهِ، وَصَحَّ جَعْلُهُ ثَوَابَهُ لِأَحَدِهِمَا بَعْدَ الْأَدَاءِ، بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ عَلَى مَا فَرَّقْنَا مِنْ قَبْلُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ عَنْ أَبَوَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا عَنْ أَحَدِهِمَا) فَاسْتَفَدْنَا أَنَّهُ إذَا أَهَلَّ عَنْ أَحَدِهِمَا عَلَى الْإِبْهَامِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا عَنْ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى، وَمَبْنَاهُ عَلَى أَنَّ نِيَّتَهُ لَهُمَا تَلْغُو بِسَبَبِ أَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ مِنْ قِبَلِهِمَا أَوْ أَحَدِهِمَا فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ فَتَقَعُ الْأَعْمَالُ عَنْهُ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا يَجْعَلُ لَهُمَا الثَّوَابَ وَتَرَتُّبُهُ بَعْدَ الْأَدَاءِ فَتَلْغُو نِيَّتُهُ قَبْلَهُ فَيَصِحُّ جَعْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَحَدِهِمَا أَوْ لَهُمَا، وَلَا إشْكَالَ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَ مُتَنَفِّلًا عَنْهُمَا، فَإِنْ كَانَ عَلَى أَحَدِهِمَا حَجُّ الْفَرْضِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَوْصَى بِهِ أَوْ لَا، فَإِنْ أَوْصَى بِهِ فَتَبَرَّعَ الْوَارِثُ عَنْهُ بِمَالِ نَفْسِهِ لَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُوَرِّثِ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ فَتَبَرَّعَ عَنْهُ بِالْإِحْجَاجِ أَوْ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. يَجْزِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْخَثْعَمِيَّةِ «أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ» الْحَدِيثَ، شَبَّهَهُ بِدَيْنِ الْعِبَادِ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَوْ قَضَى الْوَارِثُ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ يَجْزِيهِ فَكَذَا هَذَا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ تَبَرُّعَ الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَاذَا قَيَّدَ الْجَوَابَ بِالْمَشِيئَةِ بَعْدَمَا صَحَّ الْحَدِيثُ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْيَقِينَ بَلْ الظَّنَّ، فَمَا كَانَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي طَرِيقُهَا الْعَمَلُ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ الْمَشِيئَةِ فِيهِ لِأَنَّ الظَّنَّ طَرِيقُهُ فَقَدْ تَطَابَقَا، وَسُقُوطُ الْفَرْضِ عَنْ الْمَيِّتِ بِأَدَاءِ الْوَرَثَةِ طَرِيقُهُ الْعِلْمُ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ يَشْهَدُ بِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ الْقَطْعِ بِشَغْلِ الذِّمَّةِ بِهِ فَلِهَذَا قَيَّدَهُ بِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ فِعْلَ الْوَلَدِ ذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ جِدًّا لِمَا أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال: «مَنْ حَجَّ عَنْ أَبَوَيْهِ أَوْ قَضَى عَنْهُمَا مَغْرَمًا بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الْأَبْرَارِ» وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال: «مَنْ حَجَّ عَنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَقَدْ قُضِيَ عَنْهُ حَجَّتُهُ وَكَانَ لَهُ فَضْلُ عَشْرِ حِجَجٍ» وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا حَجَّ الرَّجُلُ عَنْ وَالِدَيْهِ تُقَبِّلَ مِنْهُ وَمِنْهُمَا وَاسْتَبْشَرَتْ أَرْوَاحُهُمَا وَكُتِبَ عِنْدَ اللَّهِ بَرًّا» هَذَا وَقَدْ سَبَقَ الْوَعْدُ بِتَقْرِيرِ مَسْأَلَةِ حَجِّ الصَّرُورَةِ عَنْ الْغَيْرِ. وَالصَّرُورَةُ يُرَادُ بِهِ الَّذِي لَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ فَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يَقول: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ، فَقَالَ: مَنْ شُبْرُمَةُ؟ قَالَ: أَخٌ لِي أَوْ قَرِيبٌ لِي، قَالَ: حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟ قَالَ لَا، قَالَ: حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا إسْنَادٌ لَيْسَ فِي الْبَابِ أَصَحُّ مِنْهُ. وَعَنْ هَذَا لَمْ يُجَوِّزْ الشَّافِعِيُّ النَّفَلَ لِلصَّرُورَةِ. قُلْنَا: هَذَا الْحَدِيثُ مُضْطَرَبٌ فِي وَقْفِهِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَرَفْعِهِ، وَالرُّوَاةُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، فَرَفَعَهُ عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ. قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: عَبْدَةُ أَثْبَتُ النَّاسِ فِي سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، وَتَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُيَسَّرٍ وَأَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي كُلُّهُمْ عَنْ سَعِيدٍ، وَوَقَفَهُ غُنْدَرٌ عَنْ سَعِيدٍ، وَرَوَاهُ أَيْضًا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ. حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ سَمِعَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَجُلًا يُلَبِّي عَنْ شُبْرُمَةَ فَذَكَرَهُ مَوْقُوفًا، وَلَيْسَ هَذَا مِثْلُ مَا ذَكَرْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي تَعَارُضِ الرَّفْعِ وَالْوَقْفِ مِنْ تَقْدِيمِ الرَّفْعِ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ تُقْبَلُ مِنْ الثِّقَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ فِي حُكْمٍ مُجَرَّدٍ عَنْ قِصَّةٍ وَاقِعَةٍ فِي الْوُجُودِ رَوَاهُ وَاحِدٌ عَنْ الصَّحَابِيِّ يَرْفَعُهُ وَآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ فَقَطْ، فَإِنَّ هَذَا يَتَقَدَّمُ فِيهِ الرَّفْعُ لِأَنَّ الْمَوْقُوفَ حَاصِلُهُ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَهُ ابْتِدَاءً عَلَى وَجْهِ إعْطَاءِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ أَوْ جَوَابًا لِسُؤَالٍ، وَلَا يُنَافِي هَذَا كَوْنُ مَا ذَكَرَهُ مَأْثُورًا عِنْدَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَمَّا فِي مِثْلِ هَذِهِ وَهِيَ حِكَايَةُ قِصَّةٍ: هِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ مَنْ يُلَبِّي عَنْ شُبْرُمَةَ فَقَالَ لَهُ مَا قَالَ، أَوْ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سَمِعَ مَنْ يُلَبِّي عَنْ شُبْرُمَةَ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَهُوَ حَقِيقَةُ التَّعَارُضِ فِي شَيْءٍ وَقَعَ فِي الْوُجُودِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ أَوْ فِي زَمَنٍ آخَرَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غَيْرِهِ، وَتَجْوِيزُ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ فِي زَمَنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثُمَّ وَقَعَ بِحَضْرَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ سَمَاعُهُ رَجُلًا آخَرَ يُلَبِّي عَنْ شُبْرُمَةَ فَقَالَ لَهُ مَنْ شُبْرُمَةُ؟ فَقَالَ أَخٌ أَوْ قَرِيبٌ يُعَيِّنُ ذَلِكَ، فَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعْ عَقْلًا لَكِنَّهُ بَعِيدٌ جِدًّا فِي الْعَادَةِ فَلَا يَنْدَفِعُ بِهِ حُكْمُ التَّعَارُضِ الثَّابِتِ ظَاهِرًا طَالِبًا لِحُكْمِهِ فَيَتَهَاتَرَانِ. أَوْ يُرَجَّحُ وُقُوعُهُ فِي زَمَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْحَجِّ كَانَتْ خَفِيَّةً فِي زَمَنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَتَّى وَقَعَ الْخَطَأُ فِي تَرْتِيبِ أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ فَسَأَلُوهُ عَنْهَا «فَقَالَ رَجُلٌ لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْت قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ» وَكَثِيرٌ، وَإِنَّمَا تَرَكُوا السُّؤَالَ ابْتِدَاءً ظَنًّا مِنْهُمْ بِأَنْ لَا تَرْتِيبَ مُعَيَّنًا فِي هَذِهِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ أَرْكَانًا لِعِلْمِهِمْ أَنَّ الْحَجَّ عَرَفَةَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالطَّوَافُ بِنَصِّ الْكِتَابِ فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خِلَافُ ذَلِكَ التَّرْتِيبِ فَزِعُوا إلَى السُّؤَالِ فَعَذَرَهُمْ بِالْجَهْلِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَأَمَّا حَجُّ الْإِنْسَانِ عَنْ غَيْرِهِ فَأَمْرٌ يَأْبَاهُ الْقِيَاسُ فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا يَقْتَضِي جَوَازَهُ إذَا خَلَّى وَالنَّظَرُ فِي مَقْصُودِ التَّكَالِيفِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلَ الْبَابِ فَلَمْ يَكُنْ يُقْدِمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ بِلَا سُؤَالٍ، ثُمَّ يَتَّفِقُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ فَيُخْبِرُهُ بِالْحُكْمِ، بِخِلَافِهِ فِي زَمَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَإِنَّهُ قَدْ ظَهَرَتْ الْأَحْكَامُ وَعَرَفَ جَوَازَ النِّيَابَةِ بِاشْتِهَارِ حَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ وَغَيْرِهِ بِعِلْمِ النَّاسِ لَهُ وَصَحَّ تَكْرَارُ ذَلِكَ فَهُوَ مَظِنَّةُ أَنْ يَعْلَمَ أَصْلَ جَوَازِ النِّيَابَةِ فَيَفْعَلَ بِلَا سُؤَالٍ فَيَكُونُ قول ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَأْيًا مِنْهُ وَلِأَنَّ ابْنَ الْمُفْلِسِ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ ضَعَّفَ هَذَا الْحَدِيثَ بِأَنَّ سَعِيدَ بْنَ أَبِي عَرُوبَةَ كَانَ يُحَدِّثُ بِهِ بِالْبَصْرَةِ فَيَجْعَلُ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ قول ابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ كَانَ بِالْكُوفَةِ يُسْنِدُهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا يُفِيدُ اشْتِبَاهَ الْحَالِ عَلَى سَعِيدٍ وَقَدْ عَنْعَنَهُ قَتَادَةُ وَنُسِبَ إلَيْهِ تَدْلِيسٌ فَلَا تُقْبَلُ عَنْعَنَتُهُ، وَلَوْ سَلِمَ فَحَاصِلُهُ أُمِرَ بِأَنْ يَبْدَأَ بِالْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ النَّدْبَ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ وَهُوَ إطْلَاقُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. قولهُ لِلْخَثْعَمِيَّةِ: «حُجِّي عَنْ أَبِيكِ» مِنْ غَيْرِ اسْتِخْبَارِهَا عَنْ حَجِّهَا لِنَفْسِهَا قَبْلَ ذَلِكَ. وَتَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ فِي وَقَائِعِ الْأَحْوَالِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ عُمُومِ الْخِطَابِ فَيُفِيدُ جَوَازَهُ عَنْ الْغَيْرِ مُطْلَقًا. وَحَدِيثُ شُبْرُمَةَ يُفِيدُ اسْتِحْبَابَ تَقْدِيمِ حَجَّةِ نَفْسِهِ وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ الْجَمْعُ وَيُثْبِتُ أَوْلَوِيَّةَ تَقْدِيمِ الْفَرْضِ عَلَى النَّفْلِ مَعَ جَوَازِهِ. وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنَّ حَجَّ الصَّرُورَةِ عَنْ غَيْرِهِ إنْ كَانَ بَعْدَ تَحْقِيقِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ بِمِلْكِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَالصِّحَّةِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ لِأَنَّهُ يَتَضَيَّقُ عَلَيْهِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ فِي أَوَّلِ سَنَى الْإِمْكَانِ فَيَأْثَمُ بِتَرْكِهِ، وَكَذَا لَوْ تَنَفَّلَ لِنَفْسِهِ وَمَعَ ذَلِكَ يَصِحُّ لِأَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ لَعَيْنِ الْحَجِّ الْمَفْعُولِ بَلْ لِغَيْرِهِ وَهُوَ خَشْيَةُ أَنْ لَا يُدْرِكَ الْفَرْضَ، إذْ الْمَوْتُ فِي سَنَةٍ غَيْرُ نَادِرٍ. فَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» عَلَى الْوُجُوبِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَنْفِي الصِّحَّةَ وَيُحْمَلُ تَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ فِي حَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ عَلَى عِلْمِهِ بِأَنَّهَا حَجَّتْ عَنْ نَفْسِهَا أَوَّلًا وَإِنْ لَمْ يَرْوِ لَنَا طَرِيقَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ كُلِّهَا: أَعْنِي دَلِيلَ التَّضْيِيقِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَحَدِيثِ شُبْرُمَةَ وَالْخَثْعَمِيَّةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.